الرباط – «القدس العربي» : رغم التسمية التي تحيل على الممارسة الفنية، فإن التشكيلي في المغرب ينتمي أكثر إلى المجال الثقافي، ويفيض إبداعه على ضفاف الفكر، لكن الأهم أن هذا «المجتمع المصغر» الذي يتشكل من فنانين تشكيليين مغاربة، روادا ومحدثين، هم فئة مفتونة بالجمال الداخلي للأشياء، عاشقة لاكتشاف الحواس غير المرئية. فاللوحة ليست مجرد واجهة لشكل ولون، بل هي عالم بأسره، أو بوابة يعبر من خلالها المتأمل إلى عالم آخر، وقد تكون على أقل تقدير شرفة تطل على أفق وأعماق متاحة في الوقت نفسه. إلى جانب ذلك تتواصل اجتهادات فنانين للوصول إلى مشهد تشكيلي مغربي متكامل قلبا وقالبا.
من بين هؤلاء، الفنان التشكيلي محمد بنيحيى الذي يؤكد في حديثه لـ»القدس العربي»، أنه للوصول «إلى مشهد تشكيلي متكامل، نحتاج إلى رؤية واضحة ترتكز على مرجعيات فكرية عقلانية سليمة، ومنسجمة مع الواقع الاجتماعي المغربي». فهو يرى أن «الحداثة، رغم اندماجها على المستوى الصناعي والاقتصادي وتحقيق بعض الإيجابيات، تتطلب على المستوى الثقافي تفكيك اختلالات بنيوية وعميقة، تتعلق أساسا بمفهوم الحداثة والبيئة الحاضنة لها. فقد أدت هذه الفجوة إلى خلق جو من الفوضى والارتباك في المشهد التشكيلي المغربي، وأفرزت أعمالا زائفة تتسم بالتقليد والتكرار، وتفتقر إلى أي إحساس بالمواطنة الحديثة، بل تكرّس الخضوع».
ومن ثم، يرى أنه «أصبح من الواجب تفكيك هذه الاختلالات ومواجهة خطر الانزلاق في حضن المقاربات المستوردة والحداثة المشوهة، حيث أدت هذه المعطيات إلى انحراف المُنتَج التشكيلي وصعوبة تحريره من قيود الهيمنة والتبعية».
ودعا إلى «بناء جديد لرؤيتنا يدعم المشهد التشكيلي المغربي، ضمن مشروع وطني متكامل يبدأ بالاعتماد على الذات والإيمان بالخطاب الذي يعترف بأن الحداثة كونية تستمد قوتها من بيئتها الحاضنة»، مؤكدا أن هذا المسعى «يفرض ضرورة التوطين لثقافة تعتمد على بنيات معرفية حديثة، والاندماج في حركة فكرية تؤسس لثقافة وطنية تعبر عن الشخصية الجامعة دون عصبيات، والانخراط في العصرنة بكل ثقة، والتركيز على المُنتج الوطني، ووضع كل المؤهلات الذاتية والمهارية لتأسيس حركة إبداعية مميزة تحت رعاية وإمضاء (تمغربيت)».
وأوضح أن «هذه العبارة الجميلة، حتى في نطقها، لا تشير قطعا إلى العودة إلى التراث واستنساخه، بل إلى الاعتماد على الذات، انطلاقا من الواقع المعيش ومواكبته للتسارع الحداثي، وهكذا نساهم في تأسيس مجتمع مغربي جديد، ومواطن حداثي يتحسس المتعة والرضا والإحساس بالسعادة والاعتزاز بالمواطنة الحديثة، وكذلك فك عقدة الغرب».
الفنان بنيحيى يؤرخ لبداياته الحقيقية منذ عام 1986، لكنه بدأ قبل ذلك بكثير منذ سبعينيات القرن الماضي. حين يسأله المرء عن حاله مع الريشة واللوحة، يقول: «إنه سؤال في ظاهره بسيط، لكنه يلامس جوهر العملية الإبداعية بكل تفاصيلها. فهو يفتح خيوطا متشابكة بين مشاعر الفنان وروحه، وأدواته الأولى: الريشة واللوحة. فمتى سمت روح الفنان وصدقت، سمت معها ريشته ولوحته». ويضيف: «يظلّ حال ريشتي ولوحتي كحالي الداخلي، يتنقل بين الفرح والصفاء حينا، والحاجة إلى المراجعة والتأمل حينا آخر. إنها لحظة يومية متجددة، تنبض بلذة وراحة وحرية، تجعل من العمل الفني شبيها برحلة روحية لا تنتهي».

وعن جوهر التجربة الفنية المقبلة، يقول: «أعمل في صمت على مجموعة جديدة أراها امتدادا لمسار جاوز الأربعين عاما. غايتها تكثيف التجربة ودفعها إلى أقصى درجات الصدق والمصداقية، انطلاقا من رؤية فكرية وفلسفية تتمحور حول مفهوم (الوحدة). هذه الرؤية ليست مجرد فكرة عابرة، بل مخاض عميق أفرز مشروع (اللوحة أحادية اللون) كعلامة فارقة في مساري، مشروع ينشغل أولا بالإنسان وعلاقته بالمستقبل والعالم الجديد: عالم التكنولوجيا والإنترنت والذكاء الاصطناعي». ويضيف بنيحيى: «العالم صار موحد الرؤية والفكر، قرية صغيرة تسير بخطى متسارعة، حيث المعلومة في متناول الجميع، والإنسان أصبح متشابها في تفاصيل حياته: في طعامه، ولباسه، ومسكنه، وتنقله… بل حتى الآلة صارت تنافس وجوده وتهدد بنيته الروحية. لذا يطل مشروعي التشكيلي كصرخة وكسؤال مفتوح: كيف نحافظ على ما هو روحي وإنساني فينا؟ وكيف نصون قيم كل ما هو اجتماعي في مواجهة الفردانية، وننتصر على هيمنة العالم الافتراضي؟». ويعود بنيحيى بالذاكرة إلى بداياته البسيطة، برسومات طفولية عفوية كان ينقلها من الكتب المدرسية، ثم عشق قصاصات الجرائد والمجلات المتعلقة بالفنون التشكيلية، تعرف من خلالها على مبدعين غربيين مثل بيكاسو وفزاريلي، ومغاربة كالشعيبية والغرباوي والشرقاوي وبلكاهية والقاسمي والمليحي وآخرين.
ويتذكر اللقاءات العفوية مع فنانين كبار مثل القاسمي وبلكاهية والمليحي، التي كانت سببا في انتقاله إلى عالم الصباغة، أنجز خلالها عدة أعمال على الخشب والورق المقوى والقماش بأحجام صغيرة. ويضيف: «لقائي بالصدفة مع الفنان والمهندس المعماري الأمين الدمناتي سنة 1978 كان محطة فاصلة، حيث أعجب بأعمالي واقتنى خمس لوحات وشجعني على الاستمرار». ويعتبر بنيحيى هذه المرحلة مفتاحا لدخوله عالم عشقه الفني، ليقرر تنظيم أول معرض سنة 1979 في قاعة النادرة في الرباط، تحت إشراف وزير الشبيبة والرياضة، ثم بدأت مسيرته المعرفية في عالم التشكيل منذ الثمانينيات، بداية بالأكاديمية الملكية للفنون الجميلة في بروكسل، ثم الجامعة الحرة في المدينة نفسها، متوجا ذلك بحصوله على دبلوم مهندس معماري والإجازة في تاريخ الفن، تخصص فن العصر الوسيط إلى الفن المعاصر.
ويشير بنيحيى: «تمت ولادة أول لوحة أحادية اللون سنة 1986، تلتها مجموعة من ست لوحات كجواب على أسئلة فكرية وفلسفية تتعلق بمستقبل الإنسان في ظل بداية المعلوميات والرقمنة والتكنولوجيا. ومنذ ذلك الحين، أصبحت بوصلة رحلتي واضحة تحت عنوان (الوحدة)، وأصبحت مسؤولاً عن مشروع فني أخلاقي وفكري يهتم بالإنسان في الحاضر والمستقبل».
ويعود بنيحيى إلى الوراء في حديثه عن المدرسة التي ينتمي إليها، موضحا أنه لم يحصل على أي تكوين تقني في البداية، «بل كنت أرسم بعفوية وأساليب متنوّعة، إلا أنني أميل إلى كل ما هو هندسي، مستلهما من العمارة بمدينة فاس وما تزخر به من تقاليد وحرف أصيلة، مثل الزليج والخشب والنحاس والجبس والجلد، ما أثار إعجابي بالمهارات والتقنيات العالية لدى الصنّاع التقليديين، وكان والدي أحدهم».
ويختتم بنيحيى بالتأكيد على أن أعماله: «بعيدة عن الأساليب والمفاهيم المستوردة، وهي ثمرة تجربة مستلهمة من النماذج الحرفية التقليدية. وأحرص دائما على الابتعاد عن التكوين الأكاديمي الصارم للحفاظ على خصوصيتي، وإنجاز أعمال متكاملة ومنسجمة تنبني على تصور هندسي يجمع بين الجمالي والتقني». ويضيف: «مسألة تصنيفي أو انتمائي إلى مدرسة معينة تبقى رهن ما يراه النقاد والمتابعون». ويعلق على حال التشكيل في المغرب: «إذا أردنا معرفة حال التشكيل، يجب الحديث عن مراحل أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بداية الحماية الفرنسية والإسبانية، حيث كان الغرب يعيش نهضة حضارية متكاملة اقتصاديا وصناعيا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا. في هذه الظروف، نشأ الفن المعاصر وترعرع في حضن صفحة ليست فارغة، بل كاستمرار لتاريخ فني غني، فتبناه الغرب لخدمة مواكبة العالم الاستهلاكي الجديد.
أما البعد الثاني، فيهم الوضعية المغربية آنذاك، خصوصا الحقل الثقافي وهو ما يظهر في معمارنا وفنوننا التقليدية وصناعاتنا الحرفية التي ميزت أسلوبنا في اللباس والطعام وغيرها. في هذا السياق، كان المغرب صفحة بيضاء بالنسبة للفن المعاصر، واستغل المستعمر هذا الفراغ الفكري والثقافي، فأثث لقطيعة مع الماضي باسم العصرنة والحداثة، ما أدى إلى انهيار بنياتنا الثقافية، وتدمير كل ما يتعلق بالهوية المغربية، فصعب الحفاظ عليها وتجديدها، خصوصا في عالم جديد يقدّر العولمة والمال والاستهلاك فقط. وخلال هذه الحقبة، شجع المستعمر المبادرات المرتبطة بالفن، مثل أعمال بن علي الرباطي، بن علال، الإدريسي، وغيرهم. وفي نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، تم إنشاء مدرستين للفنون الجميلة، مدرسة تطوان في الشمال، ومدرسة الدار البيضاء في الوسط، تحت إشراف مدرسين فرنسيين وإسبان. في هذه المرحلة، بدأت انطلاقة عدد كبير من الفنانين المغاربة الذين تبنوا أساليب ومدارس غربية متنوعة: تكعيبية، تجريبية، سريالية، تعبيرية، وغيرها.
لكن هذا الانتقال حصل على أنقاض البنيات
الثقافية المحلية، التي صارت غائبة، وحوّل المستعمر التراث إلى مجرد فلكلور. ما أزعج بنيحيى هو أن كثيرا من الفنانين الرواد اعتمدوا التراث المفقود كأرضية لإبداعاتهم دون وعي أو تكوين، فاستمروا في العمل على نموذج استعماري غربي، ما أدى إلى انحراف التجربة التشكيلية وصعوبة تطوير هوية فنية مستقلة.
وأضاف بنيحيى: «مع مرور الزمن، وفي ظل الرقمنة والحداثة الجديدة، أصبح الفنان المغربي يعيش حالة من التيه والارتباك إلى حد الإحباط، لأن الجهود الطويلة قد تصب في خدمة منظومة لا تعبر عن ذاته، ويعجز عن المنافسة عالميا بسبب ضعف السوق الفنية وانعدام الدينامية والمصداقية، وسط مجتمع يفتقر للوعي الفني الكافي». ويختتم التحليل بالتأكيد على أن «الرؤية الفنية لدى جل الفنانين أصبحت متعثرة، وكسر قيود التبعية شبه مستحيل، فالأعمال الهجينة والسوقية غلبت على التجارب الرصينة، التي وجدت صعوبة في فرض وجودها كفاعل حقيقي. وهذا أدى إلى تداول أعمال تجارية، بلا رسالة فلسفية أو فكرية واضحة، بينما التجارب الوطنية والدولية الرصينة، مثل تجربة المليحي وبلكاهية رحمهما الله، والفنان الأصيل القطبي، ورحول في الخزف، أثبتت إمكانية الحفاظ على خصوصية مغربية متجذرة». ويختصر بنيحيى أحلامه القصوى في أن تصل أعماله لأكبر عدد ممكن من الناس، وأن تُقرأ كمشروع فكري متكامل يحمل رسائل معرفية وجمالية، ويساهم في توطين لغة بصرية حداثية مغربية، قادرة على المنافسة العالمية.
ويضيف: «أطمح إلى عمل فني متكامل، يستجيب للشروط التي تشبع وعي الإنسان المعرفي والجمالي، مع احترام إلزامية التفكيك وإعادة البناء للارتقاء به إلى أعلى درجات النضج، وأن يكون أمينا وقادرا على حمل رسائل ثقافية بصريا، تعكس واقعا معرفيا يجعل الإنسان نقطة ارتكاز لبناء المستقبل».
ويختتم بنيحيى حديثه قائلًا: «أظن أنني أنرت طريق حلمي، فليبحث عني، أما الزمان والمكان فلهما الاختيار».
