الناصرة – «القدس العربي»: طالما حلم اليمين الصهيوني باستكمال احتلال فلسطين بعد نكبة 1948 عبر السيطرة على الضفة الغربية وفرض السيادة الإسرائيلية عليها، وليس على القدس بشطريها فحسب، باعتبارها تشمل «الجذور والمنابع» التاريخية لمقولة «أرض إسرائيل» والعودة إلى «أرض الميعاد». ويُفسَّر ذلك بالبدء السريع في بناء المستوطنات فيها بدءًا من 1968، ومن قبل حكومات «اليسار الصهيوني» التي لم توقف تسمين الاستيطان حتى بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، بل تضاعف بعدها، خاصة بعد اغتيال رابين لقبوله فكرة التسوية، وبعد عودة اليمين الصهيوني برئاسة نتنياهو للحكم عام 1996 متهمًا منافسه شمعون بيريز ضمن الدعاية الانتخابية بالرغبة في «تقسيم القدس». ويعكس فوز نتنياهو بجولات انتخابية متتالية تأييد معظم الإسرائيليين لرفض فكرة التسوية وتقاسم البلاد، حتى إن كان نصيب الأسد منها (78%) من نصيب الجانب الإسرائيلي. واستغل اليمين الصهيوني الانتفاضة الثانية عام 2000 ومقولة رئيس حكومة الاحتلال الأسبق إيهود باراك حول عدم وجود شريك فلسطيني من أجل زرع الأرض الفلسطينية بالمستوطنات في الضفة وغزة، وتضييق الخناق على الفلسطينيين مع رغبة صريحة بتهجيرهم. بل إن فكرة الترانسفير التي شكّلت جزءًا من برامج الأحزاب السياسية الإسرائيلية الممثّلة في الكنيست، تبلورت في حقول حزب «العمل» قبل أن يتبناها الحاخام العنصري الراحل مئير كهانا وأحزاب أخرى مثل حزب «موليدت» برئاسة الوزير الراحل رحبعام زئيفي، قبل أن تصبح هدفًا معلنًا لأحزاب مشاركة في حكومات نتنياهو السابقة والحالية.
بعد طوفان الأقصى
منذ ظهرت حركة «الصهيونية الدينية» قبل أكثر من عشر سنوات برئاسة رئيس حكومة الاحتلال السابق نفتالي بينيت، انطلقت حملة إسرائيلية منظّمة ومثابرة لضمّ الضفة الغربية المحتلة وقطع الطريق على فكرة التسوية أو قيام دولة فلسطينية، حتى وإن أبقت هذه على 80% من المستوطنات خارج السيادة الفلسطينية ضمن تبادل أراضٍ. وتعمل «الصهيونية الدينية» برئاسة بتسلئيل سموتريتش اليوم لحسم الموضوع من خلال ما يعرف بـ «نظرية الحسم» التي طرحها عام 2017، وتقضي بحسم الصراع مع الفلسطينيين بالقوة المفرطة، وتخييرهم بين الموت أو الرحيل أو الخضوع. وفي الواقع، فإن هذه العقيدة القائمة على القوة المفرطة والرؤية الدينية الغيبية القومية تتبناها رسميًا وفعليًا حكومة الاحتلال ومجمل المستوى السياسي، الذي يرى أن أقصى ما يمكن أن يحظى به الشعب الفلسطيني هو «بلدية» تقدّم الخدمات تحت سيطرة أمنية إسرائيلية، وسط تنسيق أمني معها. وحسب تحقيق صحيفة «هآرتس» الشهر الماضي، ارتفع عدد البؤر الاستيطانية من 120 إلى 180 منذ تشكيل هذه الحكومة، فيما تكرّس حكومة الاحتلال مليارات الدولارات لشق الطرق والبناء لتعزيز الاستيطان واستقطاب المزيد من المستوطنين على حساب الفلسطينيين الذين يجدون أنفسهم محاصرين، تتقطّع أوصالهم، وتبدّد الحواجز العسكرية مقدراتهم وأوقاتهم، وكل ذلك تحت توجيهات المستوطن وزير المالية سموتريتش بصفته وزيرًا إضافيًا في وزارة الأمن ومسؤولًا عن ما يعرف بـ «الإدارة المدنية»، وهو فعليًا الحاكم الآمر الناهي في الضفة الغربية المحتلة. ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تتعرض الضفة الغربية لعمليات تهجير وتدمير للبشر والحجر، ويحرم الفلاحون الفلسطينيون من حقوقهم الأساسية بالحركة وبقطاف الزيتون وغيره، فيما كشف تحقيق «السلام الآن» الأخير عن تهجير 50 مجمّعًا سكنيًا فلسطينيًا وطرد سكانه، خاصة في منطقة الخليل.
تحذيرات جيش الاحتلال
وشهدت الأرياف الفلسطينية في الأيام الأخيرة عمليات إرهاب إجرامية أقدم فيها مئات المستوطنين على إحراق البيوت والمصانع والكروم والاعتداء على الفلسطينيين. وتتكرر الاعتداءات يوميًا رغم كشفها بالصوت والصورة. وتحذّر جهات أمنية من تبعات ذلك وفق قاعدة أن «كثر الضغط يولّد الانفجار»، كما حصل في عملية الأمس ضد مستوطنات غوش عتسيون. غير أن قادة المستوطنين والمستوى السياسي يرفضون الربط بين جرائم المستوطنين وبين العمليات الفلسطينية، زاعمين أن الفلسطينيين يستهدفون اليهود منذ قرن، كما زعم مدير عام مجلس الاستيطان يسرائيل كاتس للإذاعة العبرية أمس. وطبقًا لجهات أمنية إسرائيلية، فقد أضعفت الحكومة جيش الاحتلال أمام المستوطنين بصفته الجهة السيادية في المنطقة، تحت ضغط وزراء وأعضاء كنيست من الائتلاف، مما يؤدي إلى توتر أمني قد ينفجر في أي لحظة. وقال مصدر في جيش الاحتلال لصحيفة «هآرتس»: «لا يوجد اليوم من يتعامل مع قضايا الضفة. الجميع يفهم أننا على حافة انفجار، لكن لا أحد يقف ويتكلم. هناك خوف حقيقي لدى القادة العسكريين في الميدان من طرح المشكلات وفرض القانون، لأنهم يتحولون فورًا إلى هدف للمتطرفين الذين يتلقون دعمًا من وزراء وأعضاء كنيست».
تحت ظلال الحرب على غزة
ضابط كبير شارك في استنتاجات تدريب واسع نُفذ الأسبوع الماضي في قيادة الضفة قال: «الضفة هي الساحة الأكثر قابلية للاشتعال»، رغم تركيز إسرائيل على غزة ولبنان. وأضاف: «نحن صامتون، لكن حدثًا واحدًا يمكن أن يشعل الضفة كلها، وكل الجيش سيجبر على التواجد في الضفة». وتقول شخصيات رفيعة في جيش الاحتلال إن الحكومة والجيش لم يعقدا منذ أشهر أي نقاش استراتيجي حول ما يجري في الضفة. وبحسبهم، رغم أنه عبر السنين كانت هناك اعتداءات من مستوطنين على ضباط كبار في قيادة المنطقة الوسطى، إلا أن الوضع الحالي هو الأصعب.
ضمّ فعلي
ويعود ذلك إلى أن منفذي الاعتداءات ضد الفلسطينيين وضد قوات الجيش يتلقون دعمًا من أصحاب القرار، ما يخلق لهم بيئة تمكينية لفعل ما يشاؤون في الضفة. وتنقل صحيفة «معاريف» اليوم عن أحد القادة الميدانيين تحذيره من أزمة أشد خطورة: «في الشهر الأخير وحده، حدثت ست حالات كان يمكن بسهولة أن تنتهي مثل جريمة إحراق عائلة دوابشة في دوما». وتقول مصادر عسكرية إن وزير الحرب يسرائيل كاتس رفع يده عن كل ما يتعلق بما يجري في الضفة. وبحسبهم، فإن بتسلئيل سموتريتش يعمل مع الوزيرة أوريت ستروك على تنفيذ ضم فعلي للضفة، لكن لم يُعقد حتى الآن أي نقاش استراتيجي حول هذه الخطط أو حول التعامل مع السلطة الفلسطينية. ورغم هذه التحذيرات، لم تنتقل المعلومات إلى القيادة السياسية. وقال ضابط كبير شارك في تدريب قيادة الضفة: «الجيش يخشى الكلام وفقد سيادته في الميدان. نحن نتخفى وراء عمليات اعتقال فردية، لكن لا أحد يقول ما هو الحل على المدى الطويل». وحسب «هآرتس»، قال قائد عسكري ميداني: «مئات المزارع ربطت بالبنى التحتية بتكلفة مليارات والجيش صامت ويرسل الجنود لحمايتها، رغم أنها غير قانونية. الجميع يتحدث عن اقتلاع المستوطنين لأشجار الفلسطينيين، لكن لا أحد يتحدث عن كم شجرة اقتلعها الجيش لإنشاء هذه المزارع أو شق طرق جديدة».
البروفيسور سعيد زيداني لـ«القدس العربي»: «الصهيونية الدينية» تحاول فرض ضمّ فعلي وتسمين المستوطنات وحبس الفلسطينيين داخل بلداتهم ومنعهم من التنقل
ويحذّر ضابط كبير في جيش الاحتلال شارك في تدريب الألوية: «من يقول إنه لا يمكن تنفيذ هجوم داخل مستوطنة أو بلدة قرب الجدار لا يقول الحقيقة للجمهور. ليست هناك إنذارات حاليًا، لكن من سيقول لاحقًا ’لم نكن نعلم‘ سيكون كاذبًا».
وأوضح أن التنسيق الأمني مع أجهزة السلطة جيد، لكنه حذّر: «حادث واحد من ’الإرهاب اليهودي‘ يُقتل فيه عدة فلسطينيين قد يحوّل الضفة فجأة إلى الساحة الرئيسية ويستنزف كل الجيش إليها».
وتستمر هذه الجرائم الإسرائيلية في الضفة الغربية، حيث قتل نحو ألف فلسطيني منذ بدء الحرب، ليس فقط انتقامًا من الشعب الفلسطيني بعد «طوفان الأقصى»، بل في محاولة لاغتنام فرصة للقيام بضمّ فعلي وتحقيق مطامع تاريخية وسط دعم صامت لعمليات التدمير والضم والتهجير من غالبية الإسرائيليين. فقد كشفت صحيفة «هآرتس» قبل نحو ثلاثة شهور أن 82% من الإسرائيليين يؤيدون تهجير أهالي غزة والضفة، بل يؤيد 56% منهم تهجير فلسطينيي الداخل أيضًا، رغم وربما بسبب حملهم الجنسية الإسرائيلية وإقامتهم فيها.
على خلفية ذلك، يرى «المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية» (مدار) أن الكهانية ما زالت تلقي بظلالها على أجزاء من المجتمع والسياسة الإسرائيليين اليوم، وإن لم تعد تمثل حزبًا منتخبًا معلنًا كما في السابق. ويقول إن الكثير من التطرّف اليميني الراهن مستوحى من الكهانية، وإن حزب «عوتسما يهوديت» («قوة يهودية») بزعامة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير هو من أبرز الأحزاب التي تنبثق توجهاته العامة من أفكار كهانا، وإن الإعلام ومنابر أخرى باتت تروّج لطروحات كانت سابقًا حكرًا على الكهانيين مثل التهجير والترانسفير.
خطير لكن ليس جديدًا
وردًا على سؤال «القدس العربي»، يرى البروفيسور سعيد زيداني أن اعتداءات المستوطنين بدعم سياسي داخل الضفة الغربية خطيرة لكنها ليست جديدة، مذكّرًا أن مؤسسة «الحق» التي أشغل رئاستها، قبل أكثر من ثلاثة عقود، أصدرت قبيل أوسلو تقريرًا عن جرائم المستوطنين التي تتكرر اليوم وبوتيرة أعنف ضمن محاولات تيار «الصهيونية الدينية» فرض ضمّ فعلي وتسمين المستوطنات وحبس الفلسطينيين داخل بلداتهم ومنعهم من التنقل خارجها.
وأشار إلى أن إسرائيل منذ الحرب على غزة تدوس كل المواثيق الدولية ولا تكترث بانتقادات العالم طالما بقيت مدعومة من الولايات المتحدة.
وتابع: «كما هو الحال مع المؤسسات الحقوقية في العالم، فإن الدول الأوروبية تحاول أن تفعل شيئًا لكبح هذه الاعتداءات الإسرائيلية، لكنها تبدو ضعيفة ومحدودة».