جيلّي كوبر… رحيل الصوت الذي جمع الذكاء والسخرية والأنوثة


فقد الوسط الأدبي البريطاني والعالمي واحدة من أكثر الأصوات النسائية حيوية وتأثيرا الكاتبة جيلّي كوبر، عن عمر ناهز الثامنة والثمانين. أعلن نبأ وفاتها ولداها فيليكس وإميلي، يوم الأحد، لتنهال بعدها رسائل التعزية من شخصيات ملكية وأدبية، فضلا عن ملايين القرّاء والمعجبين حول العالم. وقد شاءت الأقدار أن يكون من محبي المؤلفة الراحلة الملكة كاميلا نفسها، التي كانت تربطها بها علاقة صداقة طويلة، فنعتها بكلمات مؤثرة، واصفة إياها بـ«الأسطورة الحقيقية»، وما كان ذلك في واقع الأمر إطراء ولا مغالاة، وإنما وصفا صادقا لكاتبة شيدت بموهبتها الفذة وبراعتها النادرة عالما استثنائيا من البهاء والذكاء والسخرية، وأرست أسس أسلوب أدبي فريد طبع جيلا بأكمله من القراء.

جيلّي كوبر الصوت الإعلامي الجريء

وُلدت كوبر عام 1937 في بلدة هورن تشيرش في مقاطعة أسكس في إنكلترا، وتربّت في حضن أسرةٍ عسكرية، حيث كان والدها منخرطا في الجيش البريطاني برتبة عميد. نشأت في بيتٍ شغوف بالقراءة، حيث «كانت القراءة فيه أشبه بعبادة»، كما وصفته لاحقا، وعمّق شغفها بالكلمة معلّم لغةٍ إنكليزية، في مدرسة «غودولفين الداخلية» في سالزبري. ومنذ تلك اللحظة، أصبحت القراءة والكتابة بوصلة حياتها. وبعد إنهاء دراستها، شقّت طريقها بثبات وثقة في عالم الصحافة، حيث حققت نجاحا باهرا جعلها تعتلي بلا منازع عرش روايات «البونكبستر» وسلسلة «كرونيكلز أوف راتشير» الجريئة، وتصبح بكل جدارة أيقونة من أيقونات الأدب البريطاني الحديث، وقامة من القامات في المشهد الثقافي العالمي.
استطاعت جيلّي كوبر أن تصبح في ظرف سنواتٍ قليلة أحد أبرز الأصوات الصحافية وأكثرهم قربا من الجماهير. بدأت مسيرتها المهنية محرّرة مبتدئة في صحيفة «ميدلسيكس إندبندنت» بين عامي 1957 و1959، قبل أن تنتقل إلى أعمالٍ متواضعة، حيث شغلت منصب كاتبة إعلانات استقبال بعيدا عن الأضواء. ولم يبتسم لها الحظ أو تبدأ شهرتها إلا بلقائها محرّر مجلة «صنداي تايمز» جودفري سميث في حفل عشاء ذات ليلة. انبهر الرجل بحدة ملاحظاتها وشدة ذكائها وقوة حجتها، فدعاها إلى كتابة مقالٍ للمجلة.
كان ذلك المقال نقطة انطلاق حقيقية لمسيرةٍ استمرت لعقود، فخلال الفترة الممتدة من عام 1969 إلى 1982، أصبحت مقالاتها الأسبوعية في «صنداي تايمز» من أبرز الأعمدة، ليس في هذه الصحيفة فحسب، بل في كامل أنحاء بريطانيا. بأسلوبٍ ساخر وصادق، تناولت الكاتبة قضايا متعددة تشغل بال الجماهير، من زواجٍ وعلاقاتٍ عاطفيةٍ وحياةٍ يومية، ولم تعالجها من برجٍ نقديٍّ بعيدٍ عن الواقع، بل من قلب الحياة، ومن موقعها كامرأةٍ وإنسانٍة تحيا مع هؤلاء البشر في المجتمع. كتبت عن العلاقات بين الرجال والنساء وعن الطبقات الاجتماعية البريطانية بذكاءٍ فريد يمتزج فيه نسيج الحسّ الساخر والواقعية الدقيقة.
قادها نجاحها في الحقل الإعلامي إلى إصدار عددٍ من المؤلفات، انطلاقا من «كيف تحافظ على زواجك» (1969)، ثم مؤلفات عن الحياة المهنية ومجموعات من مقالاتها، وصولا إلى كتابها الشهير «أذكياء وأوفياء» (1981) عن الكلاب. وبعد ثلاثة عشر عاما في «صنداي تايمز»، انتقلت إلى «ذا ميل أون صنداي»، حيث واصلت لخمسة أعوامٍ أخرى التعبير عن صوتها المميّز، الذي أصبح جزءا من الذاكرة الصحافية البريطانية.

من الحقل الإعلامي إلى العالم الروائي

وبعد حقبة طويلة في الحقل الإعلامي، انتقلت جيلي كوبر إلى عالم الرواية، حيث حققت نجاحا باهرا وبرزت كظاهرة أدبية جماهيرية بامتياز. فقد أبدعت في بناء عوالم روائية نابضة بالحياة، تجمع بين الرفاهية والطموح والعاطفة، وتجذب قرّاء من خلفياتٍ وأجيالٍ مختلفة. بدأت رحلتها الأدبية في سبعينيات القرن الماضي بسلسلة رواياتٍ رومانسية، أولها «إميلي» (1975)، تلتها «بيلا» و«إيموجين»، التي رسّخت حضورها في المشهد الأدبي كصوتٍ جديد له وزنه في الأدب النسائي البريطاني، محققة مبيعاتٍ وصلت إلى مئات الآلاف من النسخ. غير أن التحول الجوهري في مشوارها الأدبي لم يتحقق إلا بعد إطلاق سلسلة «كرونيكلز أوف راتشير» التي ساهمت في تحقيق شهرتها العالمية. كانت البداية مع رواية «رايدرز» (1985) التي حققت مبيعاتٍ تعدّت كل التوقعات، وساهمت في إبراز أسلوبها الأدبي الفذ، وتوالت النجاحات بعد ذلك بإصدار رواياتٍ مثل «ريفالز»، «بولو»، «الرجل الذي جعل الأزواج يغارون»، و«أبّاشيوناتا». صار كل إصدارٍ جديد يحدث ضجة في الأوساط الأدبية، وتترقبه الجماهير العاشقة بشغفٍ لما يحمله من شخصياتٍ حيوية وحبكاتٍ غنية، مفعمةٍ بالتفاصيل المثيرة والعلاقات الإنسانية.
لم تتراجع شعبيتها يوما، إذ تصدّرت كتبها قوائم المبيعات لعقودٍ متتالية. وها هو مشوارها الأدبي يُكلَّل في عام 2024 بنجاح المسلسل التلفزيوني المقتبس من روايتها «ريفالز». نجاحُ المسلسل الذي شاءت الأقدار أن تشهده الكاتبة قبل رحيلها، دليلٌ على أن إرثها الأدبي ما زال ينبض بالحياة، وأن قصصها ما برحت تأسر القلوب بعد مرور أربعة عقودٍ على صدورها.

جيلّي كوبر صوت الإلهام والأنوثة

لم تكن جيلّي كوبر كاتبة ترفيهٍ فحسب، بل أيضا صوتا ملهِما لجيلٍ كامل من النساء. امتزجت في كتاباتها نسماتُ الدفء بأجواء الفكاهة، والمواقفُ الجريئة بالمشاهد العاطفية، وأجواءُ الفرح والمرح بلحظات التأمل العميق. احتفت بالحب والطموح والصدق مع الذات، وجعلت القارئات يشعرن بأن القوة والضعف يمكن أن يجتمعا في امرأةٍ واحدة، ولا عيب في ذلك على الإطلاق.
بطلات رواياتها كنّ نساء حقيقياتٍ من لحمٍ ودم، لا مثالياتٍ من نسج الخيال والوهم، يجسّدن كل ما هو إنساني وواقعي في التجربة الأنثوية. وهكذا تكون كوبر قد شيّدت من خلالهنّ عالما فخما، ولكنه غير بعيدٍ عن الواقع، شيدت فضاء مليئا بالحبّ والأمل والتفاؤل. وقد اعترف العالم من حولها، بما في ذلك الأوساط الأدبية، بمدى تأثيرها. قالت الروائية البريطانية جيل مانسيل في رثائها: «لولا جيلّي، لما أصبحت كاتبة. كانت كتبها مصدرَ إلهامٍ لا ينضب، وجلبت السعادة لملايين القرّاء. كانت ببساطة رائعة».
أما الكاتبة ديزي بوكانان فتستذكر: «كنت في الثالثة عشرة عندما قرأت رواياتها للمرة الأولى. ظلت «رايدرز» و»ريفالز» تتداولان بين الطالبات في المدرسة بعد عشرين عاما على صدورهما، وهذا وحده دليلٌ على سحر قلمها».
وامتد سحرها ليغمر العائلةَ الملكية نفسها، التي لم تُخفِ إعجابها بها وبمؤلّفاتها. قالت عنها الملكة كاميلا، صديقتها المقرّبة: «قليلون هم الكتّاب الذين يصبحون أساطيرَ في حياتهم، وجيلّي كانت واحدة منهم. فقد كانت حياتها الأخرى مفعمة بالرجال الوسيمين والكلاب الوفية».

مسيرة طبعها النجاح والفضيحة

رغم مسيرتها الزاخرة بالنجاح والمجد الأدبي، واجهت جيلّي كوبر في التسعينيات واقعة أثارت الأنظار إليها وسبّبت لها إحراجا، ولو مؤقتا. فقد كشفت مجلة «برايفِت آي» عن تشابهٍ مثير بين بعض فقرات روايتيها «إميلي» (1975) و«بيلا» (1976) ورواية «الأفوكادو المدهش» للكاتبة الأمريكية إلين داندي (1958). وفي أكتوبر/تشرين الأوّل 1993، كسرت كوبر أخيرا صمتها لتردّ على تلك الاتهامات، مبرّرة تشابه كتاباتها مع كتابات الكاتبة الأمريكية إلين داندي، بأنها كانت قد دوّنت ملاحظاتٍ أثناء قراءتها رواية داندي، ثم بعد سنواتٍ استخدمتها اعتقادا منها أنها أفكارها الخاصة، وأضافت: «كنت مصدومة ومحرجة للغاية، لم يكن ذلك عملا متعمّدا». كان ردّ الأوساط الأدبية آنذاك إيجابيا، حيث تقبّل كثيرون تفسيرها، ولم تُتخذ ضدها أيّ إجراءات. وما زال إلى يومنا هذا يُنظر إلى تلك الواقعة على أنها مجرّد هفوةٍ عابرة في مسيرةٍ أدبيةٍ مميّزة امتدّت لأكثر من نصف قرن، طبعها الإبداع والتأثير.
واليوم، رحلت جيلّي كوبر، بعد أن تركت بصمة لا تُنسى في الأدب البريطاني والعالمي. من بداياتها في الحقل الإعلامي وهي في عنفوان شبابها، إلى تألّقها في العالم الروائي وبروزها كصوتٍ أدبيّ عالمي، أفعمت كوبر قرّاءها فرحا ومرحا وضحكا وترفيها وإلهاما وتأثيرا. كانت كتبها، المفعمة بالمشاعر الدافئة والأجواء المرحة والشخصيات الواقعية، ملاذا لمحبي القراءة وعشّاق الرواية في كل مكان. وستظلّ حيّة في قلوب عشّاقها، وستُذكَر على أنها إحدى أعظم الأديبات في تاريخ بريطانيا، امرأةٌ بصوتٍ فريدٍ ألهم وسَحَر الجماهير في عالمنا الواسع لحقبة طويلة وسيستمر ذلك بلا ريب لأجيالٍ قادمة.

كاتب جزائري



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *