عن خطة ترامب التي «لا يمكن رفضها»!


على طريقة شخصية زعيم المافيا دون كورليوني في رواية «العراب» والفيلم المقتبس منها، قدّم الرئيس الأمريكي خطته لوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في صيغة «الصفقة التي لا يمكن رفضها!» من قبل حركة حماس. وحسناً فعلت قيادة الحركة بالموافقة عليها «من حيث المبدأ» ما يعني أنها قد تحاول تغيير بعض البنود بالغة السوء فيها. ما كان يستبطن طرح كورليوني من تهديد تحوّل في خطة ترامب إلى تهديد صريح باستمرار حرب الإبادة (فتح أبواب الجحيم) والتهجير بحق سكان غزة وصولاً إلى إفراغها وتحويلها إلى «ريفييرا جديدة» كما سبق لترامب أن تلمظ بفكرتها.
ولكن حتى لو وافقت قيادة الحركة على «الخطة» بلا أي شروط وبدأت التنفيذ أيضاً بإطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين بما في ذلك تسليم الجثامين، هل يمكن الوثوق بترامب المفترض أنه ضامن لها وهو يصف نفسه بالصديق الأكثر إخلاصاً لإسرائيل؟ لا نأتي بجديد إذا قلنا إن «شيطان التفاصيل» سيكون حاضراً دائماً في المفاوضات التنفيذية، ليتذرع نتنياهو بأكاذيب فيواصل «تنفيذ المهمة» ويتنصل من نصيبه من الالتزامات الواردة في بنود الخطة، بلا خشية من التعرض لضغوط من حليفه الأمريكي. ما هي الجهة المخولة، وفقاً للخطة، بالتأكد من تسليم مقاتلي حماس سلاحهم أو من مغادرتهم لقطاع غزة؟ هذا فقط على سبيل المثال. وماذا بشأن الانسحاب العسكري الإسرائيلي من القطاع «على ثلاث مراحل» كما نصت الخطة؟ من يضمن التزام إسرائيل به ونحن نعرف كيف كانت تتنصل من التزاماتها طوال سنوات التفاوض على تنفيذ اتفاقيات أوسلو التي رضي بها الفلسطينيون عل علاتها الكثيرة؟
برغم هذه المخاوف المشروعة لا يبدو أن هناك أي خيارات أمام حركة حماس غير الموافقة على خطة ترامب على أمل أن تساهم ضغوط المجتمع الدولي في تحقيق وقف القتل والتدمير على الأقل، فلم يعد بمقدور الفلسطينيين تحمل المزيد منهما.

إسرائيل خسرت سياسياً بلا شك، وهو ما ظهر في العزلة الدولية الكبيرة وفي اتساع قاعدة الدول المطالبة بقيام دولة فلسطينية مستقلة في إطار حل الدولتين

في حال التزام الطرفين بالخطة (في أحسن الافتراضات) سنكون سياسياً أمام حدث هو الأسوأ إلى الآن في تاريخ الكفاح الوطني الفلسطيني. فالمقارنة الأقرب إلى الدقة هي مع ما حدث في العام 1982 حين خرجت المقاومة الفلسطينية من بيروت وفق الاتفاق الذي هندسه الموفد الأمريكي فيليب حبيب، في أعقاب اجتياح إسرائيل للبنان وصولاً إلى العاصمة بيروت. فهذه المرة سيكون خروج حركة حماس من أرض فلسطينية، مقابل خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان. وهذه المرة بعد حرب إبادة استمرت سنتين قتل فيها أكثر من ستين ألف مدني فلسطيني مقابل خسائر أقل في حرب 1982 التي انتهت بعد ثلاثة أشهر من بدايتها. كذلك استطاعت منظمة التحرير أن تعيد تنظيم قواها من جديد بعد خروجها من لبنان لأن البيئة العربية والدولية استمرت في احتضانها، مقابل غياب تام لأي بيئة صديقة يمكن للمقاومة الفلسطينية أن تلتقط فيها أنفاسها، ولا أقول حركة حماس لأنها في المناخ القائم الآن من المرجح ألا تجد أي تعاطف يتيح لها إعادة تنظيم صفوفها داخل فلسطين أو خارجها. بل لعل أفضل ما تفعله بعد الخروج هو أن تعترف بهزيمتها وتعتذر للشعب الفلسطيني عما سببته له من آلام كبيرة بقرارها الكارثي في 7 أكتوبر 2023. ما نعرفه عن القيادات السياسية في بلداننا لا يشجع على توقع هذه الخطوة الشجاعة، فهل تشذ حماس عن القاعدة وتفعلها؟
في حسابات الأرباح والخسائر بمعناها السياسي، لا شك أن الفلسطينيين هم الخاسر الأكبر من هذه الحرب. صحيح أن تيار الاعتراف بالدولة الفلسطينية من قبل كثير من دول العالم قد يمكن اعتباره ربحاً سياسياً مهماً لكنه يبقى خطوة رمزية تحتاج الكثير من الوقت والعمل لتحويلها إلى حقيقة قائمة في دولة فلسطينية مستقلة. ما هو ملموس وشاخص للعيان اليوم هو خسارة الفلسطينيين الحق في مقاومة الاحتلال الذي طالما أشارت إليه حركة حماس تسويغاً لنشاطها المسلح. وهذا ليس فقط بسبب خطة ترامب بالذات، بل بسبب النتائج الكارثية لحملة «طوفان الأقصى» بأبعادها الإنسانية والعمرانية والاقتصادية، إذا لم نحسب أبعادها العسكرية والبشرية والسياسية فيما خص حركة حماس نفسها. وبحساب هذه الاعتبارات الأخيرة، وإضافة خروجها النهائي المحتمل من المشهد، إذا مضت خطة ترامب قدماً في التنفيذ، تكون الحركة ثاني أكبر الخاسرين. أما البنود الخاصة بكيفية إدارة قطاع غزة بعد الحرب، في خطة ترامب، فهي تعني عودة لنظام الانتدابات الدولية في عصر ما قبل الحرب العالمية الثانية.
في الجانب الإسرائيلي، قد تخرج الحكومة اليمينية المتطرفة برئاسة نتنياهو رابحة في نظر جمهور كبير أيدها في حرب الإبادة، لكن إسرائيل خسرت سياسياً بلا شك، وهو ما ظهر في العزلة الدولية الكبيرة وفي اتساع قاعدة الدول المطالبة بقيام دولة فلسطينية مستقلة في إطار حل الدولتين.
كيف يمكن للفلسطينيين أن يستثمروا في هذا المكسب الرمزي ليحولوه إلى حقيقة قائمة؟ من منظور اليوم لا يبدو أن ثمة طريقاُ غير التمسك بالقرارات الأممية والشرعية الدولية من خلال التواصل المستمر مع الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية، والسعي لكسب المزيد من الدول لهذا الاعتراف. وفي غضون ذلك الحرص على تماسك المجتمع الفلسطيني وتمثيله السياسي، بعيداً عن تفرد أي تيار باتخاذ قرارات مصيرية تخص الشعب الفلسطيني بكامله، والابتعاد عن التحول إلى أدوات في أجندات دول أخرى.
على أي حال، وبصرف النظر عن «خطة ترامب» يحتاج الفلسطينيون إلى مراجعة شاملة لتاريخ كفاحهم السياسي، لوضع تصور لما يمكنهم عمله في المرحلة القادمة.

كاتب سوري



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *