الناصرة – «القدس العربي»: ينقسم الإسرائيليون حول الحرب، حقيقتها، طبيعة أهدافها المعلنة، نهايتها ويومها المأمول التالي، وحول صفقاتها، لكنهم يتفقون على أن «طوفان الأقصى» كانت عملية استراتيجية باغتت إسرائيل وألحقت بها خسائر بالغة على كل المستويات، تنطوي على وجع وإهانة وفشل كبير بمقاييس الهجوم المصري ـ السوري في حرب عام 1973، بل أكثر وأخطر، كونها من إخراج فصيل فلسطيني محاصر برا وبحرا وجوا.
بيد أن هناك روايتين مختلفتين حول المسؤولية عن هذا الإخفاق الكبير: الائتلاف الحاكم برئاسة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يلقي بالتهمة على المستوى العسكري – الجيش والاستخبارات العسكرية والأمن العام (الشاباك) – زاعما أن ما حصل يشمل فشلا استخباراتيا وعسكريا وعملياتيا، لأن «الوزراء ليس من صلاحيتهم وواجبهم البحث عن معلومات استخباراتية، أو عن الجهد العسكري والعملياتي في الميدان». وقد سبق أن قال نتنياهو، دفاعا عن نفسه، إنه لو حرص المسؤولون في الجيش على إيقاظه مبكرا في صباح السادس من تشرين الأول/أكتوبر لما تعرضت إسرائيل لخسائر كبيرة.
في المقابل، تتهم المؤسسة العسكرية المستوى السياسي بالفشل، مشيرة إلى أن الإخفاق الأكبر كان الرهان على سياسة التفريق بين الضفة والقطاع والسعي لتكريس الانشقاق بينهما، وبالتالي تمكين حركة «حماس» من بناء كينونة ضخمة بأموال خارجية، والرهان على أنه يمكن شراء سكوتها بواسطة المال. غير أن معظم أوساط الرأي العام أقرب إلى رواية المؤسسة العسكرية منها إلى الرواية السياسية، وهذا ما يدفع حكومة الاحتلال إلى رفض منهجي ومثابر لفكرة تشكيل لجنة تحقيق رسمية على غرار لجان تحقيق عليا كُلّفت بعد كل حدث جلل، كما حصل بعد حرب 1973 (لجنة إغرانات)، وبعد حرب لبنان الأولى (لجنة كاهان)، وبعد حرب لبنان الثانية (لجنة فينوغراد) وغيرها.
تبعات «طوفان الأقصى
وتواصل هذه الأوساط المطالبة بلجنة تحقيق رسمية تكون مستقلة وتكون توصياتها ملزمة، على عكس لجنة تحقيق حكومية تكون استقلاليتها موضع شك دائما، لأن نتائج وتبعات «طوفان الأقصى» والحرب التي تسببت بها وخيمة جدا بالنسبة لإسرائيل ـ حاضرها ومستقبلها، صورتها وهيبتها وقوة ردعها، وغيرها.
أدت عملية «طوفان الأقصى» إلى مئات القتلى في الجانب الإسرائيلي من جنود ورجال شرطة ومدنيين، ما جعلها صدمة كبرى، أن ذلك وقع خلال عدة أيام وبسرعة وداخل الأرض التي تسيطر عليها إسرائيل، بخلاف العقيدة الأمنية الإسرائيلية التقليدية القائمة على نقل سريع للحرب إلى أرض العدو.
تجلت النتائج المروعة لـ»طوفان الأقصى» في مقتل مئات الإسرائيليين، عسكريين ومدنيين، داخل نحو عشرين مستوطنة في «غلاف غزة» الذي يقوم في سواده الأعظم على أنقاض بلدات فلسطينية مهجّرة منذ النكبة، وفي تدمير عدد من هذه المستوطنات جراء القتال.
وعشية الذكرى الثانية للحرب على غزة، تعيد وسائل الإعلام استذكار الكثير من هذه الخسائر، بيد أن الكارثة بالنسبة للجانب الإسرائيلي كانت أعمق وأفدح من خسائر بشرية ومادية؛ فقد أصابت عملية «طوفان الأقصى» هيبة إسرائيل كدولة وجيش بجراح بالغة، لاسيما أن ميزان القوى مقابل تنظيمات فلسطينية محاصرة منذ عقدين يميل لصالح الأخيرة بشكل مريع. وربما سيجد المؤرخون لاحقا أن أعظم صورة من مشاهد هذه العملية كانت صورة شباب ومقاتلين من غزة يسيطرون على دبابة إسرائيلية ببنادقهم، ينزلون جنودا إسرائيليين منها ويجرّونهم بشكل مهين وهم يتوسلون النجاة – صورة من صور «يوم القيامة الإسرائيلية» التي تترك مفاعيل عميقة وخطيرة على الوعي الجمعي، وهي تحطم أسطورة أن الجيش الذي لا يُهزم لا يخسر ولا يُهان جنوده.
لم يفقد هذا الطوفان الإسرائيليين ثقتهم بحكومتهم فحسب، بل زعزع ثقتهم بالدولة وبالمستقبل. ومثلما أثار تساؤلات حول قوة وقدرات الجيش (باستثناء سلاح الجو)، دفع عشرات الآلاف منهم إلى الهجرة إلى دول حوض البحر المتوسط كاليونان وقبرص، وإلى دول أبعد.
تفويت فرصة انتصار
ويحذر مراقبون وخبراء من أن الهجرة ستزداد لاحقا، لاسيما أن شهوة الانتقام البربري والقتل العشوائي الجماعي للمدنيين الفلسطينيين، وسط مواصلة تعميم فكرة «حتمية العيش على حد السيف إلى الأبد»، تفقد الأجيال الشابة الأمل بحياة مستقرة في البلاد. وتبقى هذه الندوب على الحصانة الإسرائيلية العامة في ظل الفشل في تحقيق هدفي الحرب: تدمير وإخضاع حركة «حماس»، واستعادة جميع المحتجزين، رغم مرور عامين على حرب بين إسرائيل وفصائل فلسطينية صغيرة ومحاصرة، ورغم التسبب بنكبة جديدة في قطاع غزة من تدمير وإبادة للبشر والحجر.
بعد عامين على الحرب، ورغم التدمير ومخططات القتل والتهجير، ما زالت إسرائيل والولايات المتحدة تنتظران ردّ حركة «حماس» على خطة الرئيس دونالد ترامب، ما يعني بالنسبة للإسرائيليين أيضا أن الحرب الطويلة جدا (الأطول في تاريخ الحروب الإسرائيلية) تعني فشلها، ليس فقط بسبب تمكين «حماس» من بناء أنفاق عسكرية أسفل مدينة غزة مكنتها من الصمود، ومن إدارة حرب خطيرة كلّفت إسرائيل حتى الآن ألف جندي، وبسبب انتقال الفلسطينيين إلى «حرب عصابات»، بل لأن حكومة نتنياهو ارتكبت حماقة كبيرة بعدم تحديد «اليوم التالي»، أي بعدم السعي لبناء بديل سلطوي داخل القطاع؛ فهي تحارب «حماس» ولا تريد الرئيس محمود عباس، وتمضي في حرب «سياسية»، كما يؤكد عدد كبير من المراقبين الإسرائيليين منذ شهور طويلة، حرب بلا إمكانية لـ»نصر مطلق». يؤكد ذلك معارضون ومراقبون منذ اليوم الأول، منهم الجنرال البارز في الاحتياط يسرائيل زيف والمعلق السياسي ناحوم برنياع، وغيرهما ممن يرون أن إسرائيل أضاعت فرصا متتالية للخروج منتصرة من حرب، وفائزة بتطبيع مع السعودية وتوسيع اتفاقات «إبراهيم» التي تُضعف عدوتها اللدودة، إيران.
لكن نتنياهو وموالوه آثروا مواصلة البحث عن «نصر مطلق» على شكل احتلال القطاع وفرض حكم عسكري فيه (وربما استيطانه مجددا)، ربما يمحو عار السابع من أكتوبر، ويُبقيهم في ذاكرة ووعي الإسرائيليين، وفي التاريخ، وفي سدة الحكم.
وعي العالم وإخراج اللاسامية من فاعليتها
يؤكد المعارضون الإسرائيليون لاستمرار الحرب المتوحشة على غزة، أنها ألحقت ضرراً استراتيجياً يهدد مستقبل وبقاء إسرائيل، بعدما باتت دولة منبوذة مصابة بـ»الجرب»، يتظاهر ضدها عشرات الملايين في عواصم الغرب، دون توقف، وسط تزايد واضح في كراهية الشارع العالمي لها. واليوم بات العالم غير الرسمي منحازاً للرواية التاريخية الفلسطينية، بعدما كان أقرب إلى الرواية الصهيونية، في ظل مشاهد غرق غزة بدماء أطفالها ودموع نسائها، جرّاء جرائم الإبادة والتجويع الوحشية، التي تبدو وكأن البشرية عادت إلى الغابة من جديد، وجعلت الحياة الآدمية غير آمنة، وحوّلت شعارات الأخلاق والإنسانية وحقوق الإنسان إلى ما يشبه الكاريكاتير.
أغرق هذا الطوفان الرواية التقليدية التي تقول، إن إسرائيل «ضحية» و»قلعة ديمقراطية وسط أدغال عربية وإسلامية متوحشة»، رأساً على عقب، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي والثورة المعلوماتية (من «التيك توك» إلى «التلغرام») التي كسرت احتكار الإعلام الغربي المنحاز للاحتلال. وما ساهم في تحطيم الرواية الإسرائيلية الرسمية الراهنة والتاريخية أيضاً، اعترافات جهات إسرائيلية، من بينها رئيسا حكومتي الاحتلال السابقان إيهود أولمرت وإيهود باراك، اللذان قالا للعالم، وباللغة الإنكليزية، إن حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ترتكب جرائم حرب في غزة. وتؤكد جهات غير رسمية أخرى، مثل صحيفة «هآرتس»، التي كرّست عشر افتتاحيات تؤكد أن إسرائيل ترتكب جرائم ضد الإنسانية، وقدّمت أدلة لمحاكم دولية لم يصدر حكمها النهائي بعد بهذا الخصوص، مما يساهم في استمرار المقتلة الإسرائيلية في غزة.
كما أن مواقف الحكومات الغربية في معظمها لا تعكس مواقف الرأي العام داخل بلدانها، إذ تمتنع عن اتخاذ خطوات عملية وعقوبات فعلية ضد إسرائيل، بخلاف عقوباتها السريعة ضد روسيا بعد حربها على أوكرانيا. ومع ذلك، ورغم إنكار حكومة الاحتلال لما يجري في العالم ومحاولتها إقناع الإسرائيليين بأن إسرائيل «مضطرة لأن تكون إسبرطة العصر الحديث»، ورغم سعي العديد من وسائل إعلامها إلى اتهام العالم باللاسامية على مبدأ الحماقة القائل «كل العالم مخطئ ونحن المحقون»، فإن الإسرائيليين قلقون جداً من هذه النتيجة الحقيقية للحرب التي يدفع كل منهم ثمنها الشخصي، من خلال الملاحقات المحتملة في الخارج عند سفرهم للسياحة أو العمل.
سلاح اللاسامية
لم يعد سلاح اللاسامية، الذي استخدمته الخارجية الإسرائيلية لعقود لإسكات الانتقادات الموجهة للاحتلال، ناجعاً بعد هذه الحرب، فقد أفرغته غزة النازفة من مضمونه، وجعلته أقرب إلى «نكتة سوداء» في ظل قتل عشرات الغزيين يومياً بالبث الحي والمباشر. إن انزياح الرأي العام والوعي العالمي لصالح الشعب الفلسطيني، ينطوي على تهديد استراتيجي لإسرائيل، حسب مراقبين إسرائيليين يخشون من أن الجيل الشاب في العالم ينبذ إسرائيل ويكرهها ولا يصدق روايتها. حتى في الولايات المتحدة، تدل استطلاعات الرأي ـ وآخرها نشرته قبل أيام صحيفة «نيويورك تايمز» على أن نسبة الأمريكيين المؤيدين لفلسطين، بل حتى لحركة «حماس»، باتت أكبر من نسبة مؤيدي إسرائيل. ويخشى هؤلاء، وبحق، من المستقبل، لأن الشباب الملفعين بالكوفية الفلسطينية والرايات في شوارع روما وباريس ولندن وأمستردام، هم ساسة بلادهم وحكامها بعد سنوات قليلة، ما يعني اقتراب إسرائيل من مصير «جنوب افريقيا» سابقاً: دولة منبوذة محاصَرة.
ويرى مراقبون إسرائيليون أيضاً أن استغلال بعض الوزراء المتشددين، مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، للحرب وظلالها لفرض حقائق جديدة على الأرض في الضفة الغربية من خلال مضاعفة الاعتداءات على أهلها، طمعاً في تهجير شبابهم وزرع أراضيهم بالاستيطان والتهويد، هو استغلال ينطوي على نجاح كبير لهم ولعقيدتهم الغيبية المتطرفة قومياً ودينياً، لكنه يشكل تهديداً كبيراً لإسرائيل، التي ستتحول حتماً إلى دولة ثنائية القومية (وربما عربية في نهاية المطاف، كما سبق أن حذر الأديب الإسرائيلي الراحل عاموس عوز) إذا واصلت العوم ضد العالم برفض تسوية الدولتين، رغم ارتفاع عدد الدول المعترفة بدولة فلسطين إلى 160 دولة كنتيجة مباشرة للحرب.
ودون ذلك، يرى مراقبون إسرائيليون بارزون أن الإدارة الفاشلة للحرب من قبل حكومة الاحتلال، دفعت إسرائيل إلى كارثة سياسية وأمنية، بدعم مباشر من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
في آخر مقالاته يؤكد المحلل الأبرز للشؤون السياسية والحزبية في صحيفة «هآرتس» يوسي فَرْتِر، أن سلسلة الأحداث التي جرت خلال زيارة نتنياهو إلى واشنطن – بدءاً من الاعتذار الذي وصفه بـ«المهين»، والذي فُرض عليه تقديمه لرئيس وزراء قطر، وصولاً إلى المرسوم الرئاسي الأمريكي الذي منح الدوحة ضمانات دفاعية شاملة – شكّلت «إهانة شخصية لنتنياهو وضربة قاسية لمكانة إسرائيل». بيد أن الإسرائيليين منقسمون حيال الموقف من حل الدولتين، فهناك أغلبية طفيفة تعارضه وترى أنه هدية لـ»حماس» على «طوفان الأقصى»، مقابل من يرونه طوق النجاة الوحيد أمامهم. لكن المؤكد والواضح أن الإسرائيليين عموماً باتوا أكثر تورطاً في توجهات وحشية في تعاملهم مع الآخر، كما يتجلى في عدم خروج الملايين منهم إلى الشوارع، لوقف المقتلة في غزة، وفي تعقيباتهم المؤيدة لها عبر منصات التواصل الاجتماعي، كما تدلل عمليات رصد «مركز حملة» للنشاطات الرقمية.
وفي أحدث هذه الصور، نشر موقع «والا» العبري تقريراً عن سيدة فلسطينية في غزة ملقاة ميتة على الأرض وكلب ينهش رفاتها، فيما عبّر مئات المعلقين الإسرائيليين عن استخفافهم وضحكهم مما يرون، ما دفع المنتج والناقد السينمائي من تل أبيب أمير شبيرلينغ للتساؤل: «كيف تحولنا إلى قطيع؟ قطيع من التعقيبات المقززة يصفق لمن يمر فوق برج سكني أو غزة تأكلها الكلاب».
ويزداد غضب الأوساط المعارضة لنتنياهو من استمرار النزيف الدبلوماسي والاقتصادي جراء حرب باتت في نظر كثيرين «سياسية»، بعدما وفّرت فرصاً متتالية لوقفها والظهور بمظهر المنتصر ـ كاغتيال الأمين العام لـ»حزب الله» حسن نصر الله قبل عام، أو مباغتة إيران بحرب في حزيران/يونيو سيطرت فيها إسرائيل على أجواء طهران وقتلت عشرات من قادتها وعلمائها، وكذلك انهيار نظام الرئيس السوري بشار الأسد ـ وهي أحداث يعدّها نتنياهو من «ثمار الحرب التي لم يكن ممكناً قطفها دون استمرارها»، كما قال قبل أيام.
ويرى مراقبون إسرائيليون أن الحرب أضعفت إيران لكنها لم تجهز على قدراتها النووية أو الصاروخية، وربما تدفعها إلى مزيد من التشدد والتسلح. والأهم أنها دفعت الحرب المنفلتة والبلطجة الإسرائيلية إلى تقارب طهران مع الرياض بدلاً من تقارب الأخيرة مع تل أبيب.
ولذلك، فإن إسرائيل صبّت الماء وتصبّه على طاحونة يحيى السنوار، الذي خطط لهذه النتائج – أي منع شطب القضية الفلسطينية ووقف مسار التطبيع – كما يقول المحلل الإسرائيلي البارز لشؤون الشرق الأوسط الدكتور تسفي برئيل في سلسلة مقالات، ومعه المحاضر في جامعة تل أبيب الدكتور ميخائيل ميليشتاين، الذي كرّس عدة مقالات ومحاضرات ومداخلات حول «تفويت فرصة التطبيع» و»تفويت إسرائيل فرصة صياغة شرق أوسط جديد فعلاً».