حين تتحول الصدفة والفوضى إلى فضاء للتأمل والتناغم


لم يعد الابتعاد عن صخب العالم واضطراباته أمرا يسيرا؛ ففي دوامة الانشغالات وتسارع الأحداث، يغدو التأمل والسكينة لحظات نادرة وثمينة تستحق الاحتفاء. ولحسن الحظ، لا يزال الفن يمنحنا فرصة للهروب إلى مساحات من السكون والجمال، وعلى حد تعبير مارسيل بروست: «الفن هو الملاذ الذي يمكن للإنسان فيه أن يجد زمنه الخاص بعيدا عن صخب الحياة«. هناك حيث يمكن للإنسان أن يغوص في تجربة حسية تتجاوز الحدود المألوفة للزمان والمكان. نتساءل هل بإمكان الصدفة والعشوائية أن تكونا مصدرا للجمال والإبداع؟ وهل يمكن للصدفة أن تكون مؤلفا موسيقيا يبتكر سيمفونية لا تتكرر؟ كيف يمكننا الإصغاء إلى ما هو غير متوقع، والتأمل في الزمن وهو يتشكل لحظة بلحظة؟
سلسلة من التساؤلات العميقة يطرحها عمل Clinamen للفنان الفرنسي سيليست بوسيي – موجونو Céleste Boursier-Mougenot، الذي عُرض خلال صيف 2025 في قبة بورصة التجارة ـ مجموعة بينو في باريس، حيث تحولت العمارة إلى آلة موسيقية، والفراغ إلى فضاء سمعي ـ بصري يختبر حدود حواسنا. في ذلك الفضاء، يتجلى الفن كقوة قادرة على انتزاعنا من صخب العالم، ليهبنا ومضة صفاء نادرة ومساحة للتأمل العابر.

الانحراف الجميل

منذ أكثر من ثلاثة عقود، كرّس بوسيي – موجونو المولود عام 1961 في نيس، ممارسته الفنية لاستكشاف التفاعل بين الصوت والفنون البصرية. انطلق موسيقيا ومؤلفا، قبل أن يتجه إلى صياغة تركيبات وبيئات غامرة، جعلت منه أحد أبرز الأسماء في الفن الفرنسي المعاصر، وبلغت ذروتها بتمثيل بلاده في بينالي البندقية عام 2015. ما يميز تجربته هو السعي الدائم إلى تحرير الصوت من القوالب التقليدية للموسيقى، وتحويله إلى مادة حسية تتشكل في الزمان والمكان.
في عمله clinamen، الذي قُدم لأول مرة عام 1997، يستند الفنان إلى مفهوم فلسفي عريق من الفكر الأبيقوري، حيث يرمز المصطلح إلى الانحراف الطفيف والعشوائي لحركة الذرات أثناء سقوطها، وهو الانحراف الذي يمنح الكون إمكانية التنوع ويفسح المجال أمام الصدفة. يستلهم بوسيي – موجونو هذا التصور ليحوّله إلى تجربة حسية بصرية وسمعية، تقوم على التلاقي العفوي للأوعية الخزفية فوق سطح الماء. ذلك الانحراف، على بساطته، هو الشرارة التي تتيح للعالم أن يتشكل. وبالمعنى ذاته، تولد في العمل موسيقى غير متوقعة من الاصطدامات العابرة بين الأوعية، موسيقى آنية ومتجددة، تتحول إلى استعارة حسية لجوهر الوجود نفسه، حيث يُخلق المعنى من الصدفة ويُبنى الجمال من العابر والزائل.

التناغم مقابل الفوضى

في قلب قبة بورصة التجارة، يقدّم سيليست بوسيي – موجونو تجربة تركيبية تستند إلى الماء والصوت، حيث تتحول القبة الدائرية للمكان إلى فضاء حالم يفتح الباب أمام المتلقي لاختبار العلاقة بين الطبيعة، الفن والذاكرة الحسية. الحوض المائي الضخم، بقطره البالغ ثمانية عشر مترا، مملوء بالماء، تعكس سطحه الشفاف قبة المتحف في صورة أشبه بالمرآة. فوق هذا الامتداد الأزرق، تنساب أوعية من الخزف الأبيض مدفوعة بتيارات خفية، تتلامس وتصطدم، مولّدة أصواتا لحنية رقيقة. هذه السيمفونية العشوائية، التي تُعزف بلا مؤدٍ وبلا نوتة مكتوبة، تحتضن الزائر المتلقي بصوتها، وتدعوه إلى الإصغاء والتأمل، إلى الانغماس في لحظة تتجاوز حدود الواقع المباشر.
تكمن فرادة هذا العمل في تحرره من المنطق التقليدي للموسيقى، حيث يصبح الصوت هنا مادة خاما، كائنا حيا يتطور من ذاته، متأثرا بالمكان وبالزمن وبعوامل لا يمكن التنبؤ بها. ومن خلال عنوانه، يحمل العمل بعدا فلسفيا يذكّرنا بأن الجمال قد ينشأ من العشوائية، وأن التجربة الجمالية لا تكتمل إلا من خلال حضور المتلقي الذي يصبح شاهدا ومشاركا في هذا التوليف العابر.
لا يخلو هذا العمل من إحالات بصرية وفنية؛ فالمشهد يستدعي أحواض زنابق الماء عند كلود مونيه، كما يذكّر بأزرق ميرو الحالم وبحقول الألوان الصامتة عند مارك روثكو. غير أن بوسيي- موجونو يضيف إلى هذه المرجعيات بعدا صوتيا يجعل المشهد أكثر انغماسا وفاعلية، ليغدو المتلقي مشاركا في توليد التجربة، مدعوا للاسترخاء، للتأمل، وللاكتشاف الذاتي من خلال التجربة الصوتية والمكانية الفريدة التي يوفرها العمل. إن عمله يختبر الحدود الفاصلة بين اليومي والفني، محولا أشياء مألوفة ـ مثل الأوعية الخزفية ـ إلى أدوات موسيقية رفيعة قادرة على إنتاج أصوات دون أي تدخل بشري مباشر.
وإذا كان الفنان قد صدم جمهوره سابقا بتركيبات مشاكسة مثل From here to ear، حيث أوكل عزف الغيتار الكهربائي إلى طيور صغيرة مولّدةً سيمفونية صاخبة ومشوهة، فإنه فيclinamen يمنح الصوت مساحة للتناغم والصفاء. هذه الأصوات، التي تنبعث دون أي تدخل بشري مباشر، تشكل سيمفونية آنية حية، كأنها تعكس العشوائية الدقيقة والجميلة في العالم، تماما كما يشير مفهوم clinamen الفلسفي، حيث تسود الموسيقى الحالمة على الفوضى، ليقدم العمل ملاذا جماليا يعيد للزمن إيقاعه البطيء، وللأذن حساسيتها، وللخيال فضاءه اللامحدود.
في كل نغمة من هذه النغمات يتردد صدى بعيد لأعمال كلود ديبوسي، وجون كيج، والفيّني لويدجي نونو، الذي تفيض موسيقاه بتأثيرات المناظر المائية لبحيرات البندقية، بما يعكس الطابع السائل والشفاف.
إن تجربة clinamen ليست مجرد تركيب بصري أو صوتي، بل هي حوار دقيق بين المادة والعمارة والحضور الإنساني، ليُنشئ بيئة يصبح فيها الفن تجربة مزدوجة: فردية في خصوصيتها، وجماعية في تقاطعها مع الآخرين. هي دعوة للتفكير في الصدفة كمولّد للجمال، وللتأمل في العلاقة بين النظام والفوضى، بين المادة والخيال، بين الإنسان والفضاء. إنها لحظة يلتقي فيها الصوت بالمكان والفكر، ليذكّرنا بأن الفن ما يزال قادرا على أن يمنحنا تلك اللحظة النادرة من الصفاء، حيث نخرج من فوضى العالم لنجد في الهشاشة والعفوية مصدرا للجمال.

كاتبة لبنانية



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *