«طائر الليل الحزين» فيلم عن ثورة التصحيح في زمن السادات !


في أوائل السبعينيات، وبالتحديد منذ تولى السادات رئاسة مصر، تعددت الرؤى السينمائية التي انتقدت فترة الحُكم الناصري وظهرت نماذج من الأفلام المُعادية التي ركزت على سلبيات جمال عبد الناصر وتجاهلت إنجازاته، ومثل ذلك توجهاً عاماً في حينه للتأثير على شعبية عبد الناصر التي كانت تؤرق أنور السادات، لاسيما في ظل وجود ما سماها مراكز القوى.
وعلى هذا عملت السينما على تصفية الحسابات السياسية بأثر رجعي مع النظام الناصري بإيعاز من رئيس الدولة، فأنتجت أفلاماً مثل «ثرثرة فوق النيل» و»الكرنك» و»إحنا بتوع الأتوبيس» و»حافية على جسر الذهب» و»اتنين على الطريق» و»طائر الليل الحزين»، والأخير تحديداً أنتجه التلفزيون عام 1977، وتلك كانت المُفارقة، فالتلفزيون الذي بناه جمال عبد الناصر غيّر سياساته وبات شريكاً ضالعاً في الهجوم على من شيده!


الفيلم كتب له السيناريو وحيد حامد وأخرجه يحيى العلمي، وقام ببطولته محمود مرسي وعادل أدهم ومحمود عبد العزيز وشويكار ونيللي، وبالطبع استهدفت القصة مرحلة الستينيات، وركز السيناريست في تفاصيلها على استبداد الدولة وسيادة الحُكم البوليسي آنذاك، حسب رؤية الكاتب، وتم الترحيب بإنتاج الفيلم ليُضاف إلى بقية النماذج الأخرى المُناهضة والمُشابهة. وبحكم الصنعة واحترافية كل من الكاتب والمخرج، تم انتزاع الوقائع من سياقها التاريخي، لتصبح أدلة الإدانة المدموغة ضد دولة عبد الناصر، التي حكمت بالحديد والنار، وفق التصور السياسي الذي أراده السادات، صاحب ثورة التصحيح وهادم المُعتقلات ومحرر الشعب من قبضة النظام الديكتاتوري وبقاياه التي ظلت جاثمة على صدر الوطن قرابة ثمانية عشر عاماً، قبل أن يتولى سيادته الحُكم رسمياً في عام 1971.
هكذا كانت مُعطيات الفكرة العامة التي بُنيت عليها أحداث الفيلم، فطلعت مرجان (عادل أدهم) رئيس البوليس السياسي، أو الرجل القوي في أحد الأجهزة السياسية، يُمارس مهام منصبة الحساس بمنتهى القسوة والتسلط، إرضاءً للنظام، ولا مانع لديه من تلفيق التُهم الجنائية والسياسية للأبرياء، ليحتفظ بالكرسي وينعم بالنفوذ والسُلطة.
وبينما هو يتباهى بقوته وسطوته، نجده على عكس هذه الشخصية في حياته الخاصة، فزوجته الثانية دُرية (شويكار) التي أجبرت على الزواج منه تُعاني الوحدة والإهمال، وتسقط في بئر الخيانة لتعوض حرمانها من الحياة الطبيعية، وفي الوقت ذاته، يبدو هو أمامها في مشهد المواجهة ضعيفاً ذليلاً مُنكسراً، رغم علمه بخيانتها له مع الموسيقي عادل (محمود عبد العزيز).
وهنا يتضح المعنى المُراد تأكيده، باستئساد السُلطة في تلك المرحلة على الضعفاء فقط من أبناء الشعب، بيد أن معان أخرى مُتضمنة بين السطور رجحت عجزها المقيت في مواجهة القانون الذي مثله في الفيلم حازم المغربي رئيس النيابة العامة (محمود مرسي) المُنحاز للعدالة والمُجابه لطلعت مُرجان رمز الظُلم والفساد.
هكذا ظلت الحرب الثنائية بين القانون والسُلطة الجائرة مشتعلة ومستعرة، فكل من الرمزين يحتمي بما يملك من قوة، طلعت مُرجان يحتمي برجاله ومنصبه، وحازم المغربي يتحصن بالقانون وتستمر المعركة بين الطرفين وتزداد التفاصيل وتتكشف الحقائق. وبين هذا وذاك يدفع الضحايا ثمن القهر والظُلم، فيتم اختطاف أماني (نيللي) شقيقة رئيس النيابة لإرغام شقيقها على التنحي عن القضية المنظورة أمام الرأي العام، والمُتهم فيها بالقتل مع سبق الإصرار والترصد والمحكوم علية بالإعدام، عازف الموسيقى عادل. وفي الوقت نفسه، يعجز عادل نفسه عن إثبات براءته من جريمة القتل العمد، حيث تُنكر دُرية زوجة طلعت مرجان أنه كان في بيتها وقت وقوع الحادث، لخطورة ذلك على سمعتها وسمعة زوجها فتتعقد المشكلة.
لكن يظل مُمثل القانون حازم المغربي، يطاردها بالأدلة والبراهين كي يُثبت براءة المُتهم، ويواجه أمام إصراره على تحقيق العدالة حرباً ضروساً من رأس الحربة طلعت مُرجان والنظام الاستبدادي الفاشي، الذي وضعه وحيد حامد عنواناً لمرحلة بأكملها، دون استثناء لأي من رموز هذه المرحلة.
وبتطور الأحداث ووفق النهاية المُتفق عليها سلفاً، يتم التمهيد لقيام ثورة 15 مايو/أيار التي أطلق عليها السادات آنذاك ثورة التصحيح، لتكون هي البداية لتاريخ جديد على طريق الديمقراطية، حيث يسقط النظام البوليسي ويتم القبض على مراكز القوى، وتتهيأ البلاد لمناخ سياسي جديد ويتنفس الشعب حريته المُطلقة بعد الثورة المجيدة.
وعلى هذه الخلفية تنزل تترات الفيلم، وتُستبدل كلمة النهاية بكلمة البداية كناية عن بزوغ فجر مايو، وبداية عصر تسوده العدالة وتختفي فيه رموز الشر وفق قناعات صُناع الفيلم ومن امتلكوا حينئذ مقاليد السُلطة السياسية والإعلامية والثقافية وتحكموا في وعي الجماهير.

كاتب مصري



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *