الصراع بين الحقيقة وأعدائها ظاهرة قديمة تتجدد. فما أكثر الذين يخافون الحقيقة ويسعون لإخفائها في أفضل الحالات، وفي أسوئها قد يعمدون لوأدها واستئصال من يروّجها.
وفي الظروف الحاليّة التي يعيشها العالم ثمة أطراف كثيرة يسوؤها ظهور الحقيقة، فتعمد لإخماد صوتها. فما أكثر خطباء المساجد الذين يُستهدفون بسبب إصرارهم على الجهر بما يعتقدونه «حقيقة». فالكلمة أصبحت ممنوعة لأن المستبدّين والظالمين والمجرمين يخشون آثارها، ويسعون لمصادرتها. وهل اكتظاظ السجون إلا بسبب استهداف من يتحدث بما لا يطيقه الحاكم؟ في الأسبوع الماضي قالت نقابة الصحافيين التونسيين «إن مراسلي وسائل الإعلام الدولية في تونس يواجهون قيودا متصاعدة وعراقيل متكررة على الأرض، مما يحرمهم من الحق في الوصول إلى المعلومات» محذرة من محاولات ممنهجة لضرب حرية الإعلام. إنّ استهداف الإعلاميين ظاهرة عالمية لا تنحصر بدول العالم العربي التي يضيق حكامها بالإعلاميين الذين يجرأون على التحدث بما لا يخدم سياسة الأنظمة السياسية التي تمارس سياسة «تكميم الأفواه» على أوسع نطاق. وتروي كتب التراث عن معاملة بعض الحكام للّذين ينطقون بما يغضبهم، حتى أن أحد الحكام يقول لحجّابه أو جلاوزته: «اقطعوا لسانه من قفاه». أليس هذا ما حدث للعالِم اللُغَويّ يعقوبُ بنُ السِّكِّيت الذي قال للمتوكل كلاما لم يعجبه، فقال المتوكل لحجّابه: سُلّوا لسانه من قفاه، ففعلوا ذلك. ألم يقتل خالد القسري الجعد بن درهم بسبب آرائه، إذ جاء به يوم عيد الأضحى وقال في آخر خطبته: انصرفوا وضحّوا يقبل الله منكم، فإني أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم، ثم ذبحه أمام المصلّين.
وهكذا تبدو للكلمة أهميّتها ودورها، حتى أصبح من يستخدمها لمواجهة الحكام مستهدفا بالقتل أو السجن. هذا لا يعني أن الأنظمة التي تتيح مجالا أوسع للتعبير تفعل ذلك عن قناعة تامّة، بل لأسباب منها استتباب أمن النظام، وأن حرّيّة التعبير لن تستطيع التأثير على مساره السياسي.
ولكي يتم استيعاب مدى أهمّيّة دور الإعلام في إظهار الحقائق تجدر الإشارة لظاهرة الاستهداف الممنهج للإعلاميين من قبل كيان الاحتلال الإسرائيلي الذي يصفه الإعلام الغربي بأنه «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط». فكيف يمكن تبرير استهداف الإعلاميين بالقتل الممنهج الذي أزهق أرواح قرابة 250 منهم خلال أقل من عامين فحسب؟ وهناك حقيقة بأن الصحافيين في قطاع غزة يواجهون أبشع مجزرة في التاريخ. وما اغتيال الإعلامي محمد سلامة ـ الذي قامت القوات الإسرائيلية الشهرالماضي بتصفيته إلا تأكيدا لهذا النهج الذي يمارس القتل وسط صمت دولي غير معهود.
ماذا يعني قتل الإعلاميين الذين يصرّون على أداء مهمتهم؟ إن لهذه السياسة دلالات عديدة مؤلمة: أوّلها تراجع المستويات الإنسانية والأخلاقية لدى نظام الاحتلال إلى مستويات غير مسبوقة في الدناءة واللاإنسانية. ثانيها: أن لدى هذا النظام عداء مستحكما للحقيقة، وأنه يمارس سياسات ظلامية بلا حدود، ولذلك لا يسمح بوجود من يكشف الحقائق ويعرّي حقيقته للعالم. ثالثها: أن الحديث عن حرّيّة الصحافة وقداسة الحقيقة وحماية من يعمل لكشفها ليس إلا شعارات فضفاضة لا يدعمها واقع الدول «المتقدمة» ولا تحرّك مشاعر الجهات المهنيّة التي يفترض أن توفر حماية للإعلاميين الذين يعملون على خطوط النار. رابعها: أن الاستهداف بالاغتيال وتراكم الأدلّة على ارتكاب جرائم إبادة في غزّة من قبل قوات الاحتلال، جريمة خطيرة من شأنها أن تورّط الدول الداعمة للاحتلال خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية. خامسها: أن إخماد الأصوات جزء من الحرب على الحقيقة وتغييبها في عالم يمارس الدجل والتزييف ويسعى لتوجيه الرأي العام بعيدا عن القضايا المرتبطة بأمن العالم من جهة وحقوق البشر من جهة أخرى.
إخماد الأصوات جزء من الحرب على الحقيقة في عالم يمارس الدجل ويسعى لتوجيه الرأي العام بعيدا عن القضايا المرتبطة بأمن العالم من جهة وحقوق البشر من جهة أخرى
الإعلامي إنسان عادي يسعى لممارسة عمله ضمن مهنيّة مقبولة، وضمير نقيّ يتحاشى الكذب والتزييف. ويعلم أصحاب المهنة أن الإعلامي الناجح هو الذي يؤدّي دوره بكفاءة وإتقان وتجرّد. وقد أكّد الإسلام على هذه المواصفات من أجل حماية الحقيقة وإقامة العدل. قال تعالى: وإذا قلتم فاعدلوا. والعدل هنا تعني الإنصاف وقول الحق. وقال تعالى: وقولوا للناس حسنًا، وأقيموا الصلاة. هنا يتضح دور الحقيقة وأهميتها وأن الدفاع عنها مهمّة ملقاة على كتف الإنسان، مثل الصلاة، فلا إيمان بدون أداء الصًلاة أو قول الحق. وقال رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت. وورد عنه استخدامه مثلا عربيّا شائعا آنذاك: إن الرائد لا يكذب أهله، أي يقتضي أن يصدق المرء في إخبار قومه عند البحث عن العشب والماء للقبيلة. وتمقت الأديان والذوق الإنساني الصفات السلبية مثل الكذب والتزييف والافتراء، كل ذلك من أجل حماية الإنسان وكرامته. فلا يستقيم الوجود الإنساني إلا بالصدق في القول والإخلاص في العمل والتناصح على أساس الحق والخير. وقد جاء في القرآن الكريم مثلٌ بليغ يؤكد أهمية التحقق من صحة الأخبار والأمانة في نقلها. فجاء على لسان الهدهد لسيدنا سليمان عليه السلام: وجئتك من سبأ بنبأ يقين. والمعنى هنا أن نقل خبر كهذا يجب ان يكون «يقينا» اي أنه قطعيُّ لا يقبل الشك لكي لا تحدث الكوارث نتيجة ذلك.
في عالم اليوم يلعب الخبر دورا محوريا وقد يكون مصيريا. وتبرز قضية الحرب على العراق قبل 22 عاما مثالا دامغا لذلك. فقد أقام الأمريكيون حجّتهم لشن الحرب على أساس الادّعاء بامتلاكه أسلحة دمار شامل. وبرغم اعتراض بعض أعضاء فرق التحقيق التابعة للأمم المتحدة، الذي كان بينهم ضابط المخابرات الأمريكي، سكوت ريتر على مقولة أن العراق يستطيع شنّ الحرب في غضون عشرين دقيقة، إلا أن الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن أصرّ على شن العدوان الذي قتل فيه الآلاف من العراقيين ودُمّرت فيه بنية العراق بشكل كامل، وتم إخضاع واحد من أكبر البلدان العربية لعقوبات مدمّرة نجم عنها موت الآلاف من الأطفال والرجال والنساء. ولا بدّ من الإشارة إلى مقتل الإعلامي، فرزاد بازوفت الذي قتل في العام 1990 في العراق قبل الحرب بتهمة التجسس للغربيين، وهي تهمة يصعب إثباتها أو نفيها بسهولة. ومن المؤكد أن استخدام اللباس الإعلامي غطاء لأعمال التجسس يعتبر عدوانا على المهنة وجريمة ضد الحقيقة. فالإعلامي يُفترض أن يلتزم الحياد ويمارس مهنته بمهنيّة وتجرّد، وإن لم يكن ذلك ممكنا في كل الأحيان. وما أكثر الإعلاميين الذين ينهارون أمام مشاعرهم الإنسانية عندما يقومون بتغطية حوادث تُمارس فيها جرائم واسعة، كما هو الحال في غزّة. فكيف يتمالك الإعلامي نفسه ويخفي مشاعره وهو يغطّي جريمة إسرائيلية في برج سكني ويرى أشلاء الأطفال بين الركام؟ أين هي الأولوية في مثل هذه المواقف؟ أهي للمهنة أم للإنسانية؟
لم يكن بازوفت الوحيد الذي فقد حياته بتهمة ضلوعه في التجسس، فما أكثر الإعلاميين الذين تُوجّه لهم تلك التهمة. وكان واضحا أن العراق قد تخلّص من كافة ما يمتلكه من أسلحة الدمار الشامل خصوصا الأسلحة الكيماوية وألغى مشروعه النووي والتزم بإملاءات الأمم المتحدة على أساس التقارير التي رفعها المحقّقون. هذه هي الحقائق، بينما اعتمد التحالف الذي تقوده أمريكا على أخبار وتقارير مزيّفة ودعاوى مسيّسة تهدف لتدمير العراق من أجل ضمان أمن كيان الاحتلال. فبعد تدمير العراق، دُمّرت سوريا واصبحت منزوعة السلاح تماما، وكذلك لبنان الذي تعرّض لاعتداءات واغتيالات لإخضاعه لما يريده الغربيون خصوصا إزاء المسألة الإسرائيلية.
وتشعر «إسرائيل» بحصار إعلامي دولي، خصوصا أن توجه الإعلام العالمي ليس لصالحها، وأن أي إعلامي يحترم نفسه ومهنته لا يمكن أن يقرّ ممارساتها العدوانية ليس داخل الأراضي المحتلّة فحسب، بل في المنطقة كلها. وتكفي ممارسات زعمائها وأساليبهم المقزّزة واستعلاؤهم لتحشيد الرأي العام ضد الاحتلال. ولذلك تسعى بشكل مستمر للسيطرة على الخبر ومحاولة توجيهه بما يخدم سمعتها. وتعلم كذلك أن الإعلاميين هم العنصر الأساس لهذه الصناعة. وحيث أن الإعلاميين الفلسطينيين يعتبرون مصدر الخبر الفلسطيني، فقد أصبحوا مستهدفين بنمط غير مسبوق. فلدى هؤلاء ولاء لوطنهم وشعبهم وللحقيقة، ولا يسمحون لأنفسهم بالتردد عن القيام بما يعتبرونه واجبا مهنيّا ووطنيّا وإنسانيّا، لذلك يتم استهدافهم بالأساليب الإسرائيلية المعروفة خصوصا الاغتيال المباشر.
كاتب بحريني