إقصاء المؤلف في رؤية جاك دريدا… ولادة القارئ


كيف تحوّل علم العلامات، أو ما يعرف بالسيميولوجيا إلى علم القارئ؟ أو ذلك العلم الذي يعمل على إقصاء المؤلف وإحلال القارئ بدلا عنه؟ لتكون لهذا القارئ اليد العليا في عملية إنتاج النص، وهل تغيّرت النظرة الكلاسيكيّة للسيميولوجيا، باعتبارها أداة للمتعة الجمالية في القراءة؟ فبعد أن أطلق جاك دريدا جاك دريدا (1930- 2004) صرخته المدويّة (لا شيء خارج النص) يكون قد سلّم أو أعطى السلطة المطلقة للقارئ في تأويل النص.
في المقابل تحوّل رأيه إلى إقصاءٍ تام للمؤلف الذي لم يعد موجودا، أو لم يعد له دور حقيقي في عملية إنتاج النص، فدوره قد انتهى بإنتاجه لنصّه، إذن فلسفة رولان بارت «موت المؤلف» تحوّلت إلى فلسفة النص وكلاهما يلتقيان في فلسفة القارئ، حسناً في ظل هذه الجدلّيات التي قادت النقد إلى عوالم جديدة ابتعدت به تماما عن مدارس اللسانيين والشكلانيين، حيث وضعتْ دعوة بارت ودريدا الأدب أمام مفترق جديد ومغاير تماما، وكان لا بدّ أن يكون لهذا المفترق معارضون، فكلُّ حركةٍ جديدة سيكون لها معارضون، لكن لماذا سلّم دريدا بفلسفة النص؟ ولماذا أعطى للقارئ كل الحقّ في تفسير النص؟ هذان السؤالان سوف يكوّنان المدار الذي يدور بهما هذا المقال، أمّا بالنسبة لمفهوم إقصاء المؤلف فقد وقفنا عنده والأسباب التي دعت إليه، وأمّا فلسفة النص فهي دعوة إلى قراءة النص بعيدا عن كل المؤثرات التي لها علاقة بصاحبه، بمعنى الانفراد، أو الاكتفاء بالنص في عمليّة التأويل، ويكون فارس هذا التأويل والإستنباط هو القارئ وحده، مكتفيا بالعلامات والإشارات التي يرسلها النص، دون أي تفسير من صاحبه، وبالتالي يتحوّل علم العلامات أو السيميولوجيا إلى علم القارئ، الذي ينتج النص من خلال كل قراءة، بمعنى يحوّل النص إلى مختبر لشروط إنتاجه الجمالي، من خلال بنية هذا النص التي تتشكل من خلال إعادة القراءة، التي تعيد بناءه بشكل تأملّي، باعتبار هذا النص محاكاة لعالم واقعي أومتخيّل.

ولعلّ فلسفة دريدا جعلت هذا النص في مدار أفقي تدركه الحواس وآخره تكوّنه المخيّلة، من خلال إعادة إنتاج النص بفعل القراءة المتجددة، وهكذا تحوّل القارئ إلى منتج للنص، من خلال انخراطه في إعادة تركيب المعنى المستنبط، الذي يمتزج بوعي وثقافة وقدرة التخييل لدى كل قارئ، هذا غذا نجح القارئ في فكّ شيفرات النص مقابل أن ينجح النص في إقناع القارئ في جمالياته الذاتية، التي سوف يعيد ترتيبها وتركيبها، بحيث يعيد إنتاجه وفق هذه الرؤية الجديدة وهذا المخيال المبتكر، أو من خلال إعادة إنتاج الوحدات المتخيّلة للنص، أو إعادة تركيبها وفقا لفكرة كل قراءة أولرؤية كل قارئ، وهكذا يتحوّل النص إلى كونٍ متخيّلٍ يعاد تركيبه وفق الإشارات التي يرسلها هذا النص مع كل قراءة جديدة، ووفقا لهذه المعادلة يتكوّن النص من عدّة شيفرات:
1 سياق النسق: وهو ما توحي به أنساق الجملة من معانٍ
2 سياق النص: وهو ما توحي به قصديّة النص
3 السياق المتخيل: وهو ما يكوّنه أو يستنبطه كل قارئ من معانٍ جديدة
فهناك واقع سياقي تكوّنه الجمل، وواقع نصي تدركه الحواس، وواقع داخلي يستنبطه القارئ، وهكذا تتحوّل المعادلة إلى دوال ومدلولات ومتخيّلات، بمعنى هنالك صورة وواقع ومتخيّل، تعيد فاعليةُ القراءة تكوينَها لهذه العناصر، وبذلك تكون هنالك إعادة لإنتاج النص وفق هذه المعادلة، وحسب دريدا لم يعد النص فقط مادةً لغويةً، بل يكون عالماً متخيّلاً يقوم على إعادة عملية الاستنباط والتأويل، سواء من خلال مفهوم العلامات، أو السيميولوجيا، أو الإيحاء، أو مفهوم التخييل، فالنص أصبح مفتوحا أمام تعدد القراءات، من خلال رؤية دريدا لمفهوم وظيفة الأدب، خاصة بعد أن أثبتت البنيوية عجزها عن التواصل مع نظرية التلقي في عصر ما بعد الحداثة، فكان لا بد من تجاوزها إلى نظرية النص، أو نظرية إقصاء المؤلف، حيث يحلُّ القارئ بدل المؤلف، وهكذا يتمّ إقصاء المؤلف من معادلة النص، فعلى سبيل المثال عندما نقرأ نصّا لشاعر من التراث، أو شاعر معاصر لكن متوفّى. الظروف التي أحاطت بهذا المؤلف، الذي كتب النص قد تلاشت، وأيّ استحضار لها ليس له قيمة، لأننا نقرأ النص لا الظروف وما نستنبطه من النص، وليس من ظروف كتابته، التي لا علاقة لنا بها، فهي قد تلاشت، لكن النص ما زال موجودا، ونستطيع قراءته وتحليله وتأويله، ومن ثَّم استنباط مفهومنا منه بكل قراءة جديدة، فالنصُّ أصبح مرآة عاكسة لتلك الصورة التي يكتنزها، وهنا تأتي قدرةُ القارئ على التخييل الذي يقود عملية الاستنباط، فلا بدّ من التسليم بمستويين، الأوّل الخارجي المنوط بالحواس والآخر الموكل بالمخيال، وهذا ما تتوقف عليه عملية الإستنباط ذاتها، وفي كل هذا أين هو المؤلف؟ لا يوجد مؤلف، فقد تمّ إقصاؤه تماما من هذه المعادلة، لتحلَّ محلّه معادلة أخرى وهي معادلة (النص = القارئ) لأنّ معادلة (النص = المؤلف) قد انتهت تماما، فالنص – حسب دريدا – ليس وحدةً متكاملةً، أو كياناً مستقلاً مكتمل البناء، بل هو بناء لغوي متشظّي المعاني، هذه المعاني التي تُخفي أو تكتنز معاني أخرى، لا يمكن الوصول إليها الا عبر الفجوات والتناقضات، التي تتوالد من خلال تشظّي هذه المعاني نفسها، ومع كلّ إعادة قراءة جديدة نصل إلى معنى متجدد للنص، ومن اللاإنصاف أن تسمى عملية إعادة اكتشاف النص بعملية تدمير، فلم تكن في يومٍ ما أي عملية لإعادة البناء تدميراً للنص، بل تجديداً دائما للنص، من خلال ما يُخفيه هذا النص في داخله، مما لم تفصح عنه ألفاظ النص الظاهرة، وهكذا أطلق جاك دريدا رؤيته بقوله (إذا كان التفكيك مدمّرا حقّا، فليدمر ما شاء من الأبنية القديمة المشوّهة، من أجلِ أن نعيدَ البناء من جديد) والسؤال هو، هل هذا تدمير أم بناء؟ فالنظرة القاصرة إلى فلسفة التفكيك هي (التدمير) بينما النظرة الحقيقية إلى فلسفة التفكيك هي إعادة البناء وهذا ما أكّده بقوله (من أجلِ أن نعيدَ البناء من جديد)، وفي كل هذا أين دور المؤلف؟ لا يوجد له دور مطلقاً! لأنّ دوره قد انتهى بوضعه للنص، وفي ظلّ هذه الرؤية تصبح عملية إقصائه تحصيل حاصل.

آليات التفكيك:
1 إقصاء المؤلف والاحتكام إلى النص.
2 الدخول إلى النص عبر اللغة المكتوبة من خلال الثغرات والتناقضات.
3 تعدّد زوايا النظر للنص وإشراك القارئ في إنتاجها.
4 هدم البناء القديم للنص وإنشاء بناء جديد باستخدام ألفاظ وصور النص الأصلي.
وهكذا تتحوّل العملية النقدية برمّتها إلى فلسفة النص، والنص وحده، دون مؤلفه الذي تم إقصاؤه من المعادلة التي لم يعد له أيّ دور بها، وهنا أريد أن أستخدم هذا المثال الحيّ حول مفهوم إقصاء المؤلف، فلو أردنا أن نحلّل أهم كتاب عربي بلا شكّ بعد القرآن الكريم، ألا وهو كتاب ألف ليلة وليلة، فالمعروف عن هذا الكتاب الرائع إنّه مجهول المؤلف، ولا أحد أستطاع أن يصل إلى حقيقة من كتبه؟ حيث تتحوّل عملية تلقي قراءة هذا الكتاب الرائع إلى عملية ديناميّة، من خلال آليات الجمال والمعرفة عن طريق إعادة قراءتها رمزيا وإيحائيا وتخيليّاً من خلال الواقع الذي تفرضه حكايات الكتاب، ومن خلال إعادة تركيب أحداث هذه الحكايات بشكل جديد، فلو أخذنا على سبيل المثال قصص مثل (السندباد) أو (علي بابا) أو(علاء الدين) فهذه القصص لم تكن في هذا الكتاب، وأقصد كتاب ألف ليلة وليلة بالطريقة التي وصلت إلينا، بل ما حصل هو إعادة بناء لهذه النصوص، من خلال هدم البناء القديم وإقامة بناء جديد، من خلال الشخصيات ذاتها، التي كانت في الأصل، عبر إلغاء الحدود بين الحدث الواقعي والمتخيل، وهكذا استمرت هذه النصوص كل هذا الزمن من خلال إعادة التصوّر وإعادة بنائها وتركيب أحداثها عبر الزمن، وهذا هو التفكيك وفي كل هذا لا يوجد أي دور للمؤلف، الذي لم يكن موجود أصلا لأنّ هذه القصص بلا مؤلف، وإّنما وصلت لنا عبر ذاكرة التراث والتأريخ، وهكذا تمّ تفعيل سحر الرمز ليلقي بتأثيره الكبير في عملية إعادة القراءة، وهكذا يحلّ القارئ بدل المؤلف، بل يصبحُ كلُّ قارئ هو مؤلف نصّه الذي يستنبطه ويفهمه ويعيد تشكيله وفق رؤية جديدة، وهكذا تحوّل القارئ من مستهلك إلى منتج للنص، وتحوّل المعنى إلى معانٍ وتحوّلت اللذّة إلى لذّات، وبإعادة كلِّ بناء جديد للنص ينتج عنها إعادة تركيب معانٍ جديدة وهكذا يستمر النص بالتجدد عبر الزمن، إنّها عملية إعادة بناء وليست هدما، كما يصفها بعضهم، الذين ظلّوا على معتقدهم القديم في عملية التحليل للنص من خلال الثالوث المقدس لديهم (المؤلف النص المتلقي)، الذي انتهى رسميا بعد دعوات كل من رولان بارت وجاك دريدا وعبد الله الغذاميّ، إلى إنهاء دور المؤلف، بل إقصائه تماما من معادلة نصّه الذي وضعه، وأصبح الحقُّ كل الحق للقارئ أن يعيد إنتاجه وفق رؤيته لهذا النص، هكذا يتحوّل القارئ إلى مركز للنص من خلال التأويل والإستنباط ، ومن خلال الإشارات التي يرسلها النص دون أي تفسير من صاحبه، وبالتالي يتحوّل علم العلامات أو السيميولوجيا إلى علم القارئ الذي ينتج النص من خلال كلّ قراءة، فالمعنى عبارة عن دورة لغوية لا تعرف الاستقرار، أو النهاية، وهكذا نحوّل النص المغلق إلى نص مفتوح دوما لتأويل جديد، لأنّ دلالاته لا تُستنفد بل تتجدد مع كل قراءة ومع كل تأويل، فإنّ الوهم بوحدة وتكامليّة النص قد انتهى، وتحوّل إلى كيان لغوي مفتوح قابل للتأويل، بل تعدد التأويلات من خلال فلسفة الاختلاف، الذي يكون في بنية اللغة نفسها، المعنى لا يُؤخذ مرّة واحدة، بل يُرحَّل دوما، مؤجلا في سلسلة لا نهائية من الإحالات، من خلال عملية الاستنباط والقراءة، بعيدا كل البعد عن قصديّة المؤلف المقصيّ تماما من هذه المعادلة، لأنّ حضور المؤلف يعني حضور المعنى الواحد، الذي يتولد في قصديته، لكن دريدا يدعو إلى إقصائه هو وما قصده أصلا في نصّه، وترك التأويلات والإحالات تتكاثر وتتجدد وتتشظّى في وعي كل قارئ وفي كل قراءة جديدة، وهكذا نصل إلى مفهوم عمليتيّ التفكيك وفلسفة النص، أو رؤية جاك دريدا في إقصاء المؤلف.
كاتب عراقي



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *