غزة – «القدس العربي»: بعد ليلة شهدت انفجارات عنيفة جدا، هزت أركان مدينة غزة من شرقها إلى غربها جراء عمليات نسف المنازل التي تنفذها قوات الاحتلال، يروي محمد عثمان أنه جلس يستظل بحائط منزله غرب المدينة من حرارة شمس الظهيرة، منخرطا في حديث مع جاره، وكلاهما ينتظران وصول شاحنة تقلهما وأسرهما إلى وجهة النزوح لأول مرة إلى جنوب وادي غزة، فالعيش في المنطقة التي يقيمان فيها، وإن لم يصلها حتى اللحظة دخول الدبابات الإسرائيلية، أصبح صعبا للغاية.
يقول هذا الرجل الخمسيني إن سكان المنطقة الغربية لمدينة غزة صاروا يحبسون أنفسهم مبكرا في منازلهم ومناطق نزوحهم، فالوضع يزداد خطورة مع حلول المساء، والطائرات المسيّرة من نوع «كواد كابتر» لا تفارق سماء المنطقة، وتبدأ بإطلاق النار على كل متحرك. ويضيف وهو يتحدث عن واقع العيش الأليم: «في النهار مشقة وتعب للحصول على المياه والأكل، وفي الليل يزداد الهم والخوف». ويؤكد الرجل الذي يعيل أسرة من سبعة أفراد أن حجم الخوف والضغوط التي تخلقها إسرائيل ضد السكان يزداد يوما بعد يوم، قائلا: «اليوم الذي يأتي أصعب من السابق».
الخوف في عيون الأطفال
وبمرارة تحدث عن الواقع، مع تقدم الدبابات الإسرائيلية في مناطق تبعد كيلومترا واحدا عن مكان سكنه، وقال: «شفت الخوف في عيون أطفال الأسرة، الكل في الحارة وقف في مكانه لا يعرف أين يتحرك أو كيف يفعل». وكان يتحدث عن وصول الدبابات إلى المنطقة الغربية الشمالية من حي تل الهوا والقريبة جدا من مكان سكنه في محيط مرفأ الصيادين غرب المدينة. ووقتها، وقبل التراجع الإسرائيلي من المنطقة، ظن أن تلك الدبابات ستحاصر بعد دقائق المنطقة السكنية بعد قصفها وارتكاب المجازر، لكنه أدرك وجيرانه أن التوغل في تلك المنطقة، وما تبعه من تصعيد في عمليات تفجير المجنزرات العسكرية المحملة بالمتفجرات وسط الأحياء السكنية، كان رسالة تحذير خطيرة لهم بالخروج.
ومنذ ذلك اليوم (في نهاية الأسبوع الماضي)، تمكن الرجل وجيرانه بصعوبة من حجز شاحنة لنقلهم إلى منطقة النزوح الجديدة في إحدى مدارس الإيواء وسط قطاع غزة. وكان خلال اتصال «القدس العربي» به ينتظر الشاحنة التي تأخر وصولها عن موعدها خمس ساعات متتالية.
هذا الرجل الذي لم ينزح خارج مدينة غزة في فترة الحرب الأولى حين تعرضت المدينة لاجتياحات عسكرية عدة، وأقام هناك مع من آثروا البقاء، وكان وأسرته – التي أصيب اثنان منها جراء قصف إسرائيلي قريب خلال التوغلات السابقة في أشهر الحرب الأولى – يترك مكان سكنه حين يتعرض لهجوم بري وينتقل إلى وسط المدينة، ثم يعود إلى غربها عندما يتحول التوغل إلى شرق المدينة ووسطها. ورغم أنه في تلك الفترة ذاق ويلات الجوع والخوف ومرارة النزوح وعاش وسط المعركة، إلا أنه يؤكد أن حدة الخوف الحالي والقصف والمجازر أعنف مما سبق، مضيفا: «أسمع صوت المدافع والقصف لا يهدأ، بدهم يجبرونا على النزوح».
قاطع الحديث أحد الجيران، ويُكنى «أبو فراس»، الذي جمع أغراضه وأمتعته أمام منزله في انتظار وصول الشاحنة، وقال: «هذه المرة غير، الجيش يقتحم غزة من عدة اتجاهات، وكل يوم يحتل منطقة ويهجر سكانها، وكل يوم في قصف منازل لإجبار السكان على النزوح». ويشهد منزله المدمر بشكل بليغ على حاله اليوم، فقد تضرر على مدار أيام الحرب، فتحطمت نوافذه وثقبت أبوابه وتدمر الكثير منه جراء غارة استهدفت منزلا مجاورا، وانهار جزء من سقفه.
خيار النزوح إجباري
ويقول لـ «القدس العربي» إنه كان يفضل البقاء في مدينة غزة وعدم النزوح من جديد، إلا أن خوف أطفاله أجبره على اتخاذ القرار. فقرر أن يحمل معه أثاثا ومستلزمات منزلية كثيرة، منها خزان مياه صغير وأمتعة وملابس، مدركا أن القادم أسوأ، حسب تجربته في الحرب التي كانت وتيرتها تتصاعد مع كل يوم. وقد وجد هو وجاره مكانا ضيقا في فصل دراسي ضمن مركز إيواء في وسط قطاع غزة، سيتشاركان فيه السكن مع أحد أقاربه الذي نزح من قبل، فكلاهما لم ينجحا في الحصول على خيمة نزوح، فيما الأماكن المخصصة للخيام لم يبق فيها موطئ قدم لكثرة النازحين.
وتضطر الأسر النازحة إلى دفع تكلفة كبيرة لنقل الأمتعة التي تحتاجها في رحلة النزوح إلى أصحاب الشاحنات، وهي تكلفة لا تقدر عليها كثير من الأسر. وقد اضطرت أسر أخرى إلى قطع مسافة النزوح المرهقة مشيا على الأقدام، أو أرسلت قليلا من الأمتعة مع جيران وأقارب على متن شاحنات استأجروها، فيما قررت أسر كثيرة البقاء حتى اللحظة في المدينة ومواجهة المصير المحتوم رغم الانقطاع شبه التام للخدمات الأساسية، وفي مقدمتها المياه والعلاج، وفي ظل شح المواد الغذائية، لعلمها أن رحلة النزوح والسكن في مناطق الإيواء لن تكون أفضل من واقعها الحالي، أو لعدم امتلاكها المال اللازم للانتقال. ومنها أسر تؤثر البقاء حتى اللحظة الأخيرة.
ويؤكد «مركز الميزان لحقوق الإنسان» أن جيش الاحتلال يصعّد سياسة القصف والتدمير لإيقاع أكبر الخسائر في صفوف المدنيين، من خلال قتلهم داخل منازلهم وفي أماكن نزوحهم، لدفع مئات الآلاف للنزوح من مدينة غزة وسط ظروف إنسانية كارثية، بهدف القضاء عليهم كليا أو جزئيا في سياق تنفيذ «الإبادة الجماعية».
وتحدث عن استخدام «الروبوتات المتفجرة» في عمليات نسف الأحياء السكنية، وعمليات نسف المباني والقصف المكثف لمناطق مختلفة من المدينة، وإطلاق نار من قبل المسيرات على التجمعات السكانية، مما تسبب في خلق حالة من الخوف والهلع بين السكان وإجبار الكثير من الأسر على التوجه نحو جنوب القطاع، لا سيما إلى مواصي خان يونس، هربا من القصف والقتل. ولفت إلى أن أغلب المهجرين قسرا اتجهوا سيرا على الأقدام بسبب عدم توفر وسائل النقل وارتفاع تكلفة الترحيل.
ولا يزال مشهد الازدحام الكبير في الشارع الساحلي الذي يربط مدينة غزة بمناطق وسط وجنوب القطاع على حاله، فالشاحنات وعربات النقل التي تقل الأسر النازحة تحتاج حاليا إلى أكثر من سبع ساعات لقطع مسافة 15 كيلومترا. وفي ذلك الطريق الوعر يظهر حجم القهر والألم والتعب على وجوه النازحين، خاصة الأطفال وكبار السن. ولكل منهم قصة أليمة يرددها مع نفسه حين يسترجع ذكريات الأسابيع الأخيرة من الحرب. وفي كثير من المقاطع يتبادل النازحون قصصهم حين يتوقف سير الشاحنات التي تتلاصق مع بعضها البعض في هذا الطريق الساحلي الضيق، وهي تشق طريقها إلى رحلة جديدة من المجهول.
أحاديث على طريق النزوح
وفي حوالي نصف ساعة كانت الشاحنة تتوقف وتسير ببطء من جديد. تبادل عبد الله خليفة، من شمال قطاع غزة وكان ينزح في الأشهر الأخيرة في المنطقة الغربية لمدينة غزة، أطراف الحديث مع أحد سكان حي النصر. جلسا على ظهر شاحنتين فوق أكوام الأمتعة التي حملاها، وتحدثا عن مأساة الحرب ورحلات النزوح المريرة. وكما يروي عبد الله لـ «القدس العربي»، كان حالهما متشابها إلى حد كبير: كلاهما فقد منزله جراء القصف، وكلاهما فقد أحد أفراد أسرته في غارات سابقة، وكلاهما يتحد في رحلة إلى مجهول يتوقع أن يكون أكثر قتامة. ولم يكن أمامهما سبيل لقتل الوقت سوى التعارف وتبادل أطراف الحديث.
وفي مناطق النزوح، وإن خف صوت المدافع والقصف، فإنه لم يتوقف كليا، إذ يتعرض يوميا السكان والنازحون الجدد لمجازر دامية، حين يقصف الجيش الإسرائيلي خيام النازحين والمنازل. أما الأوضاع المعيشية في تلك المناطق فتماثل أحوال سكان مدينة غزة، لعدم توفر الحد الأدنى من متطلبات البقاء، فتوفير المياه صعب للغاية، والحصول على الطعام ليس بالأمر السهل، فيما ينذر الازدحام الشديد بتفشي الأمراض الخطيرة والمعدية.
ويتضح أن ما حدده الجيش الإسرائيلي من مناطق لإقامة النازحين لا يتعدى 10% من مساحة قطاع غزة، الذي كان أصلا قبل الحرب واحدا من أكثر مناطق العالم اكتظاظا بالسكان، وهو أمر يحول دون نزوح عوائل أخرى من المدينة إلى جنوب وادي غزة.
وبشكل يومي يكرر الجيش الإسرائيلي تهديداته لسكان مدينة غزة بالنزوح القسري، ويتوعد بأنه سيواصل «العمل بقوة شديدة وغير مسبوقة».
وتقول أولغا تشيريفكو، المتحدثة باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في غزة، متحدثة عما تعيشه المدينة من واقع مرير بسبب تهديدات النزوح: «تلقت مدينة غزة حكمًا بالإعدام، ارحلوا وإلا فسوف تُقتلون». وتضيف: «وُجِّهت الأوامر إلى مئات الآلاف من المدنيين الذين نال منهم الإنهاك والإرهاق والترويع بالفرار إلى منطقة مكتظة أصلا إلى حد تُضطر معه حتى الحيوانات الصغيرة للبحث فيها عن موطئ قدم لكي يتيسر لها أن تتحرك فيها». وتوضح وهي تشرح واقع سكان غزة: «ما عادت المياه النظيفة والأطعمة المغذية والحياة حقوقا أساسية، وإنما باتت سلعا نادرة إلى درجة لا يحلم معظم الناس في الحصول عليها يوما ما».