عرض لفرقة مقامات يفتتح مهرجان أدنبرة التاريخي ميزته تداخل بين فضائي الراقصين والجمهور
بيروت ـ «القدس العربي»: عرض من ساعة و45 دقيقة تميز بالسلاسة والانسياب. الناس وقوف ولا يشعرون بالتعب طيلة هذا الوقت، Dance Peole لفرقة مقامات شكّل عرض الافتتاح لمهرجان أدنبرة العريق. عُرض لأربعة ليالي تداخلت خلالها فضاءات الراقصين بفضاءات الجمهور، فشكلت تجربة فريدة ضمن فضاء جماعي مشترك.
الكوريغراف ومؤسس الفرقة وصانع رؤيتها الفنية عمر راجح، ضمّن عرضه الجديد الكثير من الفرح، والكثير من الغضب. فالفن برأيه ابن بيئته يُعبر عنها في كل حالاتها. وراجح في هذه اللحظة التاريخية ليست له قدرة إشاحة النظر عن مشاهد غزّة. ويقول إن المجزرة المتواصلة لا مثيل لها في التاريخ، وستعيش معنا لأجيال وأجيال.
عمر راجح يعيش في فرنسا منذ سنوات حيث يجد الأفق المفتوح لأعماله في كل أوروبا. وتبقى رغبته كبيرة بالعودة إلى لبنان، الذي لم ينقطع عنه لا شخصياً ولا وفنياً.
مع الفنان عمر راجح هذا الحوار:
○ كيف وصلت إلى مهرجان أدنبرة التاريخي؟
• أدنبرة هو أحد أهم المهرجانات في العالم. قبل خمس سنوات كان هناك تواصل لتقديم عرض «بيتنا»، لكن الجائحة حالت دون ذلك. عندها وجّه لي المهرجان تكليفاً لإبداع عمل جديد تماماً، فكان فيلم عن تداعيات انفجار مرفأ بيروت. لم يكن فيلماً توثيقياً، بل عملاً فنياً يستحضر صدمة الانفجار وما تركه من جروح في جسد المدينة وذاكرتها. وعُرض هذا الفيلم ضمن البرنامج الرسمي للمهرجان. مع بدء العمل على العرض الجديد تواصلت مع المهرجان، فأبدوا اهتماماً كبيراً وتبنّوا الجزء الأكبر من الإنتاج إلى جانب شركاء آخرين. بالنسبة لفرقة مقامات التي تأسست عام 2002 في بيروت، وكان هذا التوقيت مثالياً لتقديم عمل بهذا الحجم والتعقيد.
○ عرض Dance People أعدّ خصيصاً للمهرجان كونه شريك إنتاج؟
• بدأت العمل على الفكرة قبل عامين. ومع اكتمال المشروع اقترح المهرجان أن يحتضن العرض الأول. لكن Dance People لم يُصمم حصرياً لأدنبرة، بل سيواصل رحلته في مهرجانات ومدن أخرى.
○ هل من اختلاف أو تمايز في العروض بين لبنان وأي بلد أوروبي؟
• فكرة العرض وطرحها ثابتة. بالنسبة لي الخصوصية ليست ذات صلة بلبنان أو خارجه. تتصل الخصوصية بالجمهور خلال العرض، وهذا ما يحفّزني. فلكل جمهور ومدينة خصوصيتها. أسعى دائماً لبناء صلة حقيقية مع الناس والمكان. لم تعد فكرة «البلاك بوكس» تثير اهتمامي كما في السابق؛ أريد أن يعكس العرض خصوصية كل فضاء وأن يتفاعل معه. في فكرة عرض Dance People أن يتفاعل مع خصوصية كل مدينة، ومع خصوصية كل فضاء في المدينة نفسها، فليس للعرض أن يكون «بلوك» عصي على التغيير.
○ إذاً كيف يتشارك الجمهور مع الراقصين في فضائهم؟
• وهذا ما كنت بصدد شرحه. فكرة العرض أن نكون مع الناس، ونتفاعل معهم في اللحظة عينها. أن يصبح فضاء الأداء وفضاء الجمهور واحداً بلا أي فصل بينهما. الجمهور لا يجلس متفرجاً في مقاعد، بل يدخل إلى المساحة نفسها التي يتحرك فيها الراقصون، فيتحول من موقع المشاهدة إلى موقع المشاركة ويصبح جزءاً من التجربة. هذا الاندماج لا يلغـي البنية الفنية للعمل، بل يعززها، فالموسيقى والإضاءة والرقص جميعها حاضرة داخل الفضاء ذاته، متفاعلة مع الجمهور لا خارجه. بهذه الطريقة يتحول العرض إلى مساحة مشتركة نتقاسمها جميعاً، تُطرح فيها أسئلة تتعلق بالسياسة والمجتمع والحياة اليومية.
○ وكأن «مقامات» في عرضها هذا دخلت مساحة الارتجال؟
• ليس ارتجالاً بالمعنى التقني، بل مساحات تداخل مدروسة مع الجمهور، حيث تبقى الحرية جزءاً من التجربة. لكن من الضروري أن يقوم العرض على هيكل واضح وإيقاع مضبوط، خصوصاً أنه يمتد لساعتين تقريباً.
○ ما أعنيه فقط لحظات التداخل بينكم وبين الجمهور؟
• هنا أقول إن الإطار مرسوم وواضح، وتصور كيفية تظهير المشهد كذلك واضح، ولحظات تداخل الجمهور مع فرقة مقامات تحافظ على تميزه، وبأنه جمهور حرٌّ. ناقدة من أدنبرة ختمت مقالها عن العرض بوصفه بالغني، وبأن كل متفرج يرى هذا الغنى من حيث يقف، وحسب حركته الخاصة. ووجدته عرضاً يُشبه الحياة اليومية. وفيه كان للجمهور حرية اختيار المكان الذي يقف فيه، وكذلك حرية الحركة.
○ قرأت في تقديمكم للعرض أنه بصدد مساءلة السلطة. أية سلطة ستخضعونها للمساءلة؟
• نتحدّث كثيراً عن السلطة. برأيي هو هروب من المساءلة عن علاقتنا ببعضنا. في صلب العرض مقاربة لأثر توزيع الفضاء على طبيعة هذه العلاقات ما الفرق بين فضاء في بلد ديكتاتوري وآخر ديمقراطي؟ وكيف يحدد المكان شكل الحوار بين شخصين؟ الفضاء هو المحور الذي ننطلق منه لفهم علاقاتنا اليومية، حيث يسود أحياناً العنف واللاعدل. المساءلة ليست للسلطة وحدها، حتى في الحياة اليومية تسود علاقات سمتها الفوقية، والعنف. يبدأ العرض برسالة توزع على جميع المشاركين، وكل رسالة مرتبطة بلحظة تغيير شهدها التاريخ. من فلسطين عام 1948 و1967، إلى احتجاجات 2019، إلى رسالة من جندي أمريكي لزوجته خلال الحرب الأهلية عام 1879، أو رسالة من ممرضة صينية في حرب 1839 مع اليابان. هذه الرسائل تفتح الفضاء على تجارب مختلفة، وتربط الماضي بالحاضر، هي رسائل مبنية على لحظات تغيير شهدها التاريخ.
○ وكأن سيطرة القوة الغاشمة وسيادة اللاعدل في العالم هو ما أردت التعبير عنه؟
• صحيح. وهذا ما يفرض نفسه ليس عليَ كفنان، بل على كامل الكرة الأرضية. بالنسبة لي هو الموضوع الأهم المفترض نقاشه على مستوى الفنون جميعها. المسرح هو المكان الأرحب لنقاش هذه العناوين. بعض المشكلات التي يعيشها العالم ناتجة من الفوقية والعنصرية، وأفكار القوقعة على الذات، سواء كان ذلك ممارسات في لبنان أو على صعيد العالم أجمع. ويمثل الاستعمار الذي ما يزال قائماً في شرقنا العربي ذورة القضية التي علينا أن نناقشها، ونرفضها كلياً.
○ عرض مليئ بالفرح والسياسة. في أي إطار جمعت الفرح مع السياسة التي نراها تبيد الشعوب وبوقاحة مُطلقة؟
• الفرح في Dance People ينطلق من لحظة دخول الجمهور إلى فضائه، حيث يصبح جزءاً من التجربة. في أدنبرة مثلاً، وفي كل من العروض الأربعة التي حضرها نحو 400 شخص، بدأ أكثر من 90 في المئة من الجمهور بالرقص لحظة الدخول، وكان ذلك مشهداً فريداً. لكن العمل ليس حفلاً بالمعنى التقليدي، بل تجربة تحمل فرح اللقاء والاحتفال، وتتقاطع في الوقت نفسه مع وعي سياسي حاد. فبين الرقص والموسيقى توزَّع رسائل تحمل قسوة ووجعاً كبيراً، من لحظات في التاريخ مثل تجارة البشر والرق، إلى أحداث وتواريخ أقرب. بذلك يتلازم الفرح مع المواجهة، وتبقى التجربة سلسة رغم قسوة ما تحمله من معانٍ.
○ بالمجمل عرض يعبّر عن وجع الحاضر من غزة إلى لبنان إلى أوكرانيا؟
• بالتأكيد، والأفظع ما تعيشه غزّة، فهو غير مسبوق في التاريخ. اعتقدنا أن ما حدث في الماضي «لن يتكرر أبداً»، لكن تكراره في غزّة وبالنَفَسْ الإجرامي المطلق هو الأفظع في التاريخ. تجويع الناس وحرمانهم من ماء الشرب، واصطيادهم وقتلهم وهم ينتظرون الطعام، جريمة تفوق الوصف.
○ كفنان كيف تقرأ في ردة فعل الفنانين على صعيد العالم رفضاً للإبادة؟
• كائناً من كان الشخص فما من أحد لديه ذرة عقل قادر على استيعاب ما يحصل من مجازر. غزة اليوم هي المثال الأفظع على الإبادة. ما يجري غير مسبوق، ويغيّر تاريخ البشرية. كفنانين، ردود الفعل العالمية مهمة، لكن التحدي هو كيف تتحول إلى فعل ملموس. خلال سفري لتقديم عروض مقامات أجد ردة الفعل كبيرة جداً. إلى جانب تلك المواقف المنددة والمناهضة للسلوك الصهيوني، يبقى السؤال عن الفعل المثمر. حتى الآن لم نستوعب الأمر المهول الذي يحصل في غزّة. وهو لن يمر بانتهاء الحرب، سيقيم بيننا لأجيال وأجيال. المجازر في غزّة نقلت البشرية من مكان إلى آخر Dance People يشارك هذا الوجع ويحوّله إلى مساحة مواجهة جماعية.
○ أن تقدّم Dance Peole في ظل هذه الأجواء ماذا يعني ذلك؟
• ربما هو أكبر العروض التي عملت عليها حتى الآن. وافتتاحه في مهرجان أدنبرة العريق محطة مفصلية في مسيرتي، وكذلك بالنسبة لميا حبيس رفيقة حياتي وعملي، وطبعاً كافة أفراد فرقة مقامات. تعاونت المجموعة بشكل رائع وبشغف. تركيب العرض لم يكن سهلاً، إنما كان مميزاً للغاية، وهذا ما لمسته من جمهور المهرجان، ومدراء مهرجانات أخرى حول العالم، وكل من تربطه صلة بالرقص والحركة.
○ وماذا عن حضور صوت القدير عبد الكريم الشعّار في كيروغرافيا العرض؟
• هو تعاون يحصل لأول مرة. وكان تعاوناً استثنائياً مع الفنان عبد الكريم الشعار، وهو من جيل أقدّره كثيراً. دخلنا إلى الأستوديو وخضنا تجربة ارتجالية حيّة، حيث عمل زياد الأحمدية بصفته المؤلف الموسيقي بشكل أساسي مع الشعار، موجّهاً الارتجال ومحدداً مساراته. ثم قام زياد مع الموسيقي الفرنسي ماتياس بترتيب الموسيقى وصياغتها بشكل كامل.
○ وافتتاح مهرجان «كِنفلست فيمار» في ألمانيا ماذا عنه؟
• أذكر أن هذا المهرجان الألماني شارك إلى جانب مهرجان أدنبرة بالإنتاج، وشكّل عرض Dance People افتتاحاً له أيضاً. وفي العام المقبل سنقوم بجولة في كل من سويسرا، وإيطاليا، وألمانيا، وفرنسا، وذلك بدءاً من آخر شهر أيار/مايو.
○ هل أنت مرتاح بعيداً عن الوطن وكيف تجمع أعضاء مقامات؟
• شعوري أننا كلبنانيين نعيش دائماً على الحد الفاصل بين الرحيل والعودة. كانت أولويتي دائماً أن أحمي فرقة مقامات ومهرجان بايبود وسط هذه الظروف، حتى نحافظ على ما بُني خلال عشرين عاماً من عمل وتطوير، فلا يضيع كل هذا الجهد. أواصل في فرنسا وأوروبا ما بدأتُه في بيروت، لكن وجودي هنا يتيح فرصاً وشراكات أوسع، ويضعني في قلب شبكات فنية ومؤسساتية تمتد إلى مدى أبعد، إضافةً إلى الانخراط في شبكات رقص أوسع وعلاقات مع مؤسسات ومهرجانات تتيح آفاقاً أخرى للحوار والإنتاج. في الوقت نفسه يظل هدفي الأساسي التفكير في كيفية إعادة بناء الأفق الثقافي في لبنان ليشبه حيويته وغناه كما كان بين عامَي 2000 و2011.
تصوير: تومي كا/كين وان
عمر راجح تصوير فيسنا لاليك نوفا آر سي