على غرار صديقه وزميله في جماعة أبولو، أحمد زكي أبو شادي
(1892-1955) لم ينل إبراهيم ناجي (1898-1953) شاعر الرومانسية الحزينة والوجدانية العميقة والنفس المشروخة، ما يستحقه من تقدير في حياته، بل تعرّض لهجوم قاسٍ من طه حسين (1889 -1973) وعباس محمود العقاد (1889-1964) وإن كان أبو شادي قد اضطر إلى مغادرة مصر إلى أمريكا عام 1946، لما لاقاه من انتقاد وهجوم بسبب مناداتهما بالتجديد وتأييد المتحوّل، إلّا أنّ إبراهيم ناجي الشّاعر الطبيب بقي في مصر التي أحبّها وغنّاها، وطبّب فيها مرضاه. أصدر ناجي في حياته ديوانيْن: «وراء الغمام» 1934، و»ليالي القاهرة» 1943.عدا عن كونه شاعرا، ومثقّفا ومترجما عن الأدب الغربيّ، فقد ترجم بعض أعمال شكسبير ونتفات من «أزهار الشرّ» لبودلير. زاول إبراهيم ناجي مهنة الطب، وامتاز فيها بإنسانيته ومساعدته التي لا تعرف الحدود، لمرضاه الفقراء حيث كان، كما كتب عنه، يقدّم لهم العلاج المجانيّ ويدفع عنهم ثمن الدواء، وقيل عنه في عشقه للشعر، إنّه كان يكتب الشّعر في «روشتات» مرضاه. كما أنّ وفاته وقعت في عيادته في شبرا، أثناء معاينته أحد مرضاه. لقد افتخر إبراهيم ناجي بمزاوجته بين رسالتيْ الشّعر والطبّ، في قصيدته «يا صفوة الأحباب والخلانِ»، إذ يقول إن الشّعر مرحمة النفوس والطب مرحمة الأبدان، والاثنان في قاموسه سيان، «والناس تسأل والهواجس جمة / طبٌ وشعر كيف يتفقان/ الشعرُ مرحمة النفوس وسِرّه/ هِبة السماء ومِنحة الدَّيان/ والطبُ مرحمة الجسوم ونبعُهُ/ من ذلك الفيض العليّ الشأن». فالشّعر والطب صديقان قديمان، من أيام ابن سينا (980 – 1037).
كتب إبراهيم ناجي شعرا إنسانيّا مضخما بالحب والأزاهير وفراق الأحبّة، شفيف الأحاسيس عميق الغور في نفسه المصدّعة، ونهايات قصائده فجائعيّة، فقد بقي متعلّقا بالمحبوبة، يدور في فلكها، ويخشى الانفكاك منها «قالت تعال فقلت لبيكِ/ هيهات أعصي أمر عينيك/ أنا يا حبيبة طائر الأيك / لم لا أغني في ذراعيك». وهو صريع الهوى، الناعت نفسه «الميت الحي»، داوِ ناري والتياعيْ وتمهَّلْ في وداعيْ / يا حبيب العمر هبْ لي بضع لحظاتٍ سراع». اتّشح شعره إبراهيم العاطفيّ بالسوداوية، والمسحات الحزينة ولوعات الفراق، والغوص في التأمّل وأعماق النفس لكشف خباياها، بسبب حبّ فاشلٍ، عاش معه طويلا وسكن شعره الوجيع، ما أضيع الصبر في جُرح أداريه/ أريد أنسَى الذي لا شيء يُنسيه/ وما مجانبتي من عاش في بصري/ فأينما التفتت عيني تلاقيه». كما أنّ عناوين قصائده تشكّل مرايا عاكسة لنفسيته الكلمى المهزومة.
سامية محرز تقتحم غرفة جدّها المغلقة وتكشف أسراره
في كتابها «إبراهيم ناجي زيارة حميمة تأخرت كثيرا»، دار الشّروق (2021)، ترسم حفيدة الشّاعر سامية محرز بورتريه شخصيّ وشعريّ، لجدها الشاعر إبراهيم ناجي، بمهارة وجودة عالية، مفنّدة جميع الصور التي تراءى فيها إبراهيم ناجي من قبل كثيرين، اعتمدوا الإشاعة والكذبة والتخيّلات، بدل الحقائق والوثائق الدامغة. هذا الكتاب البانورامي التوثيقيّ، الحامل سيرة جدها الشخصية والشعريّة، هو بمثابة مانفستو أدبيّ وتسليط أضواء جديدة عليه. تقوم سامية محرز، صاحبة «أطلس القاهرة الأدبيّ» بتمحيص أوراق خاصّة بجدها، كانت عند خالتها «ضوحية» الابنة الثانية للشاعر، وقراءة وفك شيفرات رموز الرسائل والوثائق واليوميات، وجمع الروايات الشفوية الخاصّة بجدها، وتحليلها حينا وتحقيقها أحيانا بأسلوب علميّ دقيق وموضوعي، لتكشف المسكوت عنه في عالمه الخاصّ، وعالمه الشعريّ، الذي عُتّمَ عليه من قبل الكثير من الكتاب أبناء جيله والباحثين، وتشير سامية محرز، أنّ جدها لأمّها إبراهيم ناجي، ظُلِمَ بأن صُبغَ ووُصِف بشاعر «الأطلال»، وكأنّه لم يكتب غير هذه القصيدة التي غنّتها أم كلثوم. تشير سامية محرز، إلى أنّ جدها إبراهيم ناجي، تزوّج من سامية سامي، وتكشف رسائله إليها من عيادته في المنصورة، ومخاطبته لها بدلال وغنج (عزيزتي سومة)، ثمّ رحيله المفاجئ عن 55 عاما. كما تكتب عن زواجه وحبّه السابق بشكل صريح «فُتِن إبراهيم بالعروس الشابة، على الرغم من جرح غائر في الحب، سيلازمه طوال حياته، إذ كان قد تأهّب للزواج من قبل (في خياله على الأقل)، من قريبته وجارته في الصّبا في «مدينة الأحلام» في شبرا، لكنها اختارت عريسا آخر كان في تقدير والدها أنسب لها، وعلى الرغم من زواج تلك الحبيبة الأولى، ستظلّ تطلّ علينا في قصائد كثيرة، يُهديها جدي إليها معنونة «ن إلى ع»، أو إلى «ع. م»، وتزوّج هو من سامية سامي بعد أن كان يُرجئ الارتباط. تصف سامية محرز خطابات جدها لجدتها، بالرواية أو مسلسل ميلودرامي، وأنّها لم تُقرأ بشكل صحيح، من هذا المنطلق. الكتاب هو رحلة اكتشاف وبحث عن الحقيقة وتفاصيل صغيرة في سفر شاعر مبدع، إنّ جمع هذه الشذرات، يشكّل لوحة فنية في حياة رمز شعريّ في القرن العشرين.
إبراهيم ناجي مجنون «ع «
تحت عنوان قصيدة «يا شطر نفسي وغرامي الوحيد»، كتب إبراهيم ناجي «مُهداة من «ن» إلى «ع «، ثمّ بثّ شكواه وهيامه بها، قائلا «يا شطر نفسي وغرامي الوحيد/ ما شئتِ يا ليلاي لا ما أريد/ يا من رأت حزني العميق البعيد/ داويتِ لي جرحي بجرح جديد». كما أنّه أهداها ديوانه الأوّل «وراء الغمام»، بقصيدة قصيرة قال فيها «أنتِ وحيُ العبقرية وجلال الأبدية/ أنتِ لحنُ الخلد والرحمة في أرض شقية «.كذلك أهدى لها ديوانه الثاني» ليالي القاهرة»، بصيغة المذكّر للتمويه «إلى صديقي ع. م الذي ندّى الزهر الذابل من خمائل الماضي، وأنبت في روض الحاضر زهورا نديّة مخضلة بالألم والحياة. إليه أقدّم ما أوحى إليه»، من هذا الإهداء يُستشف تعلّقه بحبّه الأوّل الخائب، وعذاباته في حبّ متيّمته وملهمته «ع «.
هل فعلا كانت لناجي ملهمة وفق المقولة «لكلّ شاعرٍ ليلاهُ»، على غرار شعراء أجانب وعرب كثر. سامية محرز تنفي الروايات والإشاعات، حول معرفة بعض الكتّاب باسم ملهمة جدها إبراهيم ناجي، وتنعت كتاباتهم
بـ»الحواديت» وتتّهمهم بـ»عدم الحرفية وانعدام التوثيق وسذاجة الحكي والاستخفاف بتاريخ حياة الرموز الثقافية. تقوم سامية محرز برحلة استقصاء بحثية، من خلال اعتماد الرواية الشفوية الصّحيحة، والتقائها المؤرخ حسين عمر عام 2019 الذي باح لها بالسرّ الذي كتمه جدها، وكشف لها أنّ (ع. م ) هي (علية محمود الطوير)، والمؤرخ حسين عمر هو حفيد (ع. م).
أم كلثوم تعيد إبراهيم ناجي برائعته «الأطلال» إلى خريطة الشعر العربيّ
ألقى إبراهيم ناجي قصيدة «الأطلال» في استوديو الإذاعة الفلسطينيّة في القدس، في نوفمبر/تشرين الثاني 1946، وكانت «الأطلال» قد نُشرت عام 1937 في مجلة «مجلتي»، وعام 1941 في مجلة «الرسالة» المصريتيْن لقد قام الشاعر أحمد رامي، الصديق الحميم لإبراهيم ناجي، بعد 13 عاما من رحيله، بتهجين أبيات مختارة (25 بيتا) من قصيدة «الأطلال» مع 7 أبيات من قصيدة «الوداع»، لينحت منها مغناة أم كلثوم «الأطلال»، التي غنّتها أوّل مرة في أبريل/نيسان 1966. وقد تمّ إجراء تغييرات فيها، منها المطلع «يا فؤادي رحم الله الهوى» إلى «يا فؤادي لا تسلْ أين الهوى»، «وحنيني لك يكوي أعظمي» إلى «وحنيني لك يكوي أضلعي». ما من شك أنّ غناء أم كلثوم لمقاطع منحوتة من أشعاره تحت راية «الأطلال»،أعاد هذا الشاعر المغيّب إلى خريطة الشعر العربيّ الحديث، رغم موهبته وإبداعه وإيمانه بأن الشّعر رسالة وشفاء للنفس، كما انتصر للشعر وتغنّى به وبالشّعراء بقوله «الشعرُ مملكة وأنتَ أميرُها/ ما حاجة الشعراء للتيجان / هومير أمّرهُ الزمانُ لنفسه/ وقضت له الأجيال بالسلطان»، ورأى أن الشّعر رحلة إبداع لا تنتهي، «مهما أقل بقيت لدي قصيدةٌ / في القلب لم تنطق بها الشفتان». إنّ الغناء الرّاقي للشعر الجميل، هو رافعة مُحبّبة ومشتهاة، ووسيلة شهرة أو بطاقة تعريف للشاعر، تساهم في خلود الشعر وديمومته، كما في «الأطلال» أيقونة الشّعر والغناء العربيّ في القرن العشرين.
كاتب فلسطينيّ