والآن دور فلسطينيي سوريا! … ونتنياهو… كل مكبرات الصوت «ثم لا يسمعه أحد»


خرجت تظاهرة في سوق الحميدية في قلب دمشق من أجل غزة، وكان الأمن العام السوري قد أُبلِغ بها سلفاً. الشعارات، وكما يحدث في أي تظاهرة غاضبة في العالم، شرّقت وغرّبت، إلى درجة أنها تغزّلت باليمن، وهاجمت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
وزارة الداخلية السورية أوقفت بعض الهاتفين «المسيئين للرئيس المصري»، و»أطلقت سراحهم بعد تعهد بعدم ترديد هتافات ضد الحكومات العربية، أو الإساءة إلى الرؤساء والملوك»، على ما جاء في مواقع إعلامية.
رسمياً، انتهى الأمر عند هذا الحد، لكن بعض الإعلاميين المصريين أرادوا أن يشعلوها، هم في الأساس يبحثون عن مظاهرة يشبعون فيها لطماً. فقد اعتبرت الإعلامية لميس الحديدي أن المظاهرة مخصصة ضد مصر، ونَسَبَتْها إلى سوريا «الرسمية»، وراحت «تردح» وتسأل لماذا لم تتوجه التظاهرات لمحتل الجولان، ذاك الذي لا يكفّ عن قصف سوريا، في مواقع عديدة من بينها وزارة الدفاع في دمشق، وعابت على سوريا أعلاماً إسرائيلية مرفوعة في السويداء فيما «الدنيا لطيفة». وربما لم تلتفت الحديدي عن عمد إلى أن السلطات السورية نفسها أوقفت بعض المتظاهرين لبعض الوقت.
المظاهرة الدمشقية تسبّبت أيضاً بموجة مناصرةٍ لأم الدنيا (وهي تستحق تبجيلنا واعترافنا بأمومتها في كل وقت)، وتنصّلٍ من العار الذي ارتكبه هاتفون فلسطينيون. وطالب صوتٌ معارض للرئيس السوري أحمد الشرع الحكومةَ المصرية بترحيل السوريين من أنصاره، مع جملة شتائم وأوصاف تعميمية.
كذلك انبرى مؤثرون معروفون بموالاتهم ودفاعهم عن الإدارة السورية الجديدة بإدانة هتافات التظاهرة الدمشقية، بل واتهام الهاتفين بأنهم «فلول النظام السوري»، علماً أن السلطات نفسها لم توجّه لهم اتهاماً كهذا.
الهجوم الآن مستمر حتى بلغ فلسطينيي سوريا بالجملة، باعتبارهم أجانب وغرباء «ويا غريب اقعد أديب»، ولأن «الهتّيف» الرئيسي في المظاهرة فلسطيني، على ما قيل، سيؤخذ الجميع الآن بهتافٍ عابر في مظاهرة.
هذه «اسمها مظاهرة» يا جماعة، ويحدث في كل مكان أن يخرج متظاهرون عن الشعارات المحددة أحياناً سلفاً، وعن اللافتات والأعلام، هذا ما حدث حتى في تظاهرات الثورة السورية نفسها أحياناً. يستحيل أن ترضي الشعارات الجميع في وقت واحد.
أما عن مطالبة إعلاميين مصريين للسلطات بإسكات تلك الشعارات، فهل تستطيع الحكومة المصرية نفسها أن تكتم شعارات واعتراضات في قلب مصر ضد السيسي ومطالبة بفتح معبر رفح مع غزة؟!

مكبرات صوت نازية

في أوقات الكوارث، تلك التي تصل حدّ الانهيارات وتَراكُم الأنقاض، تطالب فرق الإنقاذ الناس بالصمت، من أجل الإصغاء إلى بذرة حياة تحت الأنقاض، لطالما شاهدنا فيديوهات من سوريا وغزة لمنادٍ يصيح بالردم: حدا سامع صوتي؟ حدا عايش؟
نتنياهو، رئيس حكومة إسرائيل، سيفعل العكس؛ سيزرع مكبرات صوت على شاحنات عسكرية يوزعها في أنحاء غزة لتنقل خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. ابتعد كل هذه المسافة، من القدس إلى نيويورك، وبعد إنجازه كل ذاك الدمار، ليقذف بصوته  من هناك جاهداً باحتلال أثير غزة، كأنما لمزيد من التنكيل بالضحايا المكلومين، المجوّعين، الذين يعيشون على آخر نفس خارج بيوتهم. يريد نتنياهو أن يؤكد ويتأكد من أنه فعلاً «مدمر العوالم».
سيثير الأمر هستيريا في إسرائيل؛ الصحافة العبرية نفسها أسهبت في وصف عملية مكبرات الصوت بالأسلوب النازي (انظر بن كسبيت- “القدس العربي” 28 سبتمبر)، أو الكوري الشمالي. عندما راح هتلر يبث خطاباته، والأغاني التي تمجده، في الشوارع، وفي المعتقلات في عمليه ترهيب لأعدائه، وشد أزرٍ لجنوده. أراد السيطرة على خصومه، وحتى غير خصومه، إلى آخر نَفَس. لن يذكر المحللون الإسرائيليون خطابات حافظ الأسد التي كانت تبث على مدار الساعة ما أن تُلقى، كان الطاغية السوري المتوحش قد احتل كل شيء، الساحات والشوارع والباحات والصفوف المدرسية، وحتى زمن السوشال ميديا، عندما أصبح صوته البغيض في عبارة «الوطن عزيز، الوطن غال» الشهيرة رنة موبايل. الوحش الإسرائيلي متأكد أنه دمّر كل شيء في القطاع، ويريد أن يتابع كأي مجرم جبان لا تكفيه طعنة واحدة لخصمه، من شدة خوفه يظل يعود إلى طعن قتيله، هذا ما يفعله أيضاً كلما هُزم في محفل أو ساحة عالمية. إنه يردّ في المكان الذي يقدر عليه، أينما تطال يده. تلك وسيلته للبقاء قليلاً بعد في المشهد.
هي صورة أخرى لا بد من إدراجها في الألبوم، حيث مكبرات صوت ضخمة موزعة على مدّ الخراب الغزي القاحل. على من كل هذه المزامير الدموية!
الصحافة العبرية نفسها أسهبت في استدعاء وتحليل المشهد على الجهة الأخرى، في نيويورك، حيث يبث نتنياهو خطابه مدججاً بأدوات تعليمية ودعائية مساعدة. لكنه ما أن دخل قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة حتى انفض الجمع من أمامه. ما تفيد مكبرات الصوت إذن فيما يتراكض الجميع فارين من صوت وصورة المجرم الإسرائيلي في مشهد استثنائي في القاعة الأممية الرحبة.
كل مكبرات الصوت هذه «ثم لا يسمعه أحد»، على ما تقول العبارة الشكسبيرية الواردة في مونولوج ماكبث عندما يصله خبر موت زوجته: «ما الحياة إلا ظل يمشي، ممثل مسكين، يتبتخر، ويستشيط ساعته على المسرح، ثم لا يسمعه أحد.. ﺇﻧﻬﺎ ﺣﻜﺎﻳﺔ
ﻳﺤﻜﻴﻬﺎ ﻣﻌﺘﻮﻩ، ﻣﻠﺆﻫﺎ ﺍﻟﺼﺨﺐ ﻭﺍﻟﻌﻨﻒ، ﻭﻻ‌ ﺗﻌﻨﻲ ﺃﻱ ﺷﻲﺀ».
حكى نتنياهو الحكاية كما يريد أن يحكيها، ولن يصدقه حتى شعبه، فهو مستمر بالكذب منذ 23 شهراً، خصوصاً عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة، التي سارعت في مظاهراتها الأخيرة، بالتزامن مع خطاب الأمم المتحدة، فرفعت صوراً لمكبرات الصوت في مظاهراتها، ربما في محاولة للقول إن لديها ما يجب على نتنياهو سماعه، في وقت وضع المتظاهرات لصاقات على أفواههم.
لم تعد الحكمة المافيوزية تجدي هنا، فلقد تجاوز كل الحدود، تجاوزها بشكل أحرج حتى الحلفاء (مع ذلك هناك من لم يخجل من البقاء والاستماع لخطابه في القاعة الأممية!). لقد جاوز الظالمون المدى، وليس على نتنياهو بعد الآن أن يركن إلى عبارته الشهيرة: «العالم قد يتعاطف مع الضعيف لبعض الوقت، ولكنه دائماً يحترم القوي».

 كاتب من أسرة «القدس العربي»



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *