نساء غزة يا إسرائيل يبقين ضاحكات


غزة ـ «القدس العربي»: ليس مجرد كلمة، بل تجربة يومية تصهر الحزن مع تفاصيل الحياة الصغيرة، وبين الدموع والابتسامات، ووجع الرحيل واللحظات العابرة من الفرح، تبرز قدرة الناس على الصمود، ففي البيوت والمآتم، في رائحة القهوة وفي أحضان العائلة، تظهر لحظات مؤلمة تتحول أحيانا إلى ضحكات خافتة وابتسامات، رغم الحزن، كأنها تذكير بأن الحياة تستمر مهما قست الظروف.
أنا وردة الشنطي، التي اعتادت أن تسرد حكايا الناس، لكن تاريخ 11 كانون الأول / ديسمبر 2024، سيظل محفورا في ذاكرتي كأنه الأمس، ذلك اليوم الذي ارتقى فيه والدي موسى الشنطي أبو أشرف شهيدا، واليوم الذي انكسر فيه قلبي على غيابه، لم أستطع استيعاب حقيقة أنه رحل إلى الأبد، وأن نظرة الوداع ستكون آخر مرة أراه فيها، وأن صوته وضحكته ولمساته التي اعتدت عليها طوال حياتي ستصبح ذكرى تتردد في أرجاء أيامي المقبلة، فكنت أحاول التمسك بظله، بصوته، وبأي شيء يثبت أنه ما زال موجودا، حتى لو كانت مجرد صورته في عقلي أو كلماتنا الأخيرة، وكل ثانية في ذلك اليوم كانت ثقيلة على قلبي، وكل لحظة مرّت كأنها امتدت لساعات من الألم والصمت الداخلي.
وبينما كنت غارقة في دموعي، احتضنتني زوجة أخي بقوة، محاولة أن تنقل لي بعض الدعم والدفء، وسط الحزن الجارف. كانت ترتدي شالا على رأسها يزينه دبوس مدبب، ومع كل لحظة احتضان كان رأس الدبوس ينغز خدي برفق، شعرت بوخز خفيف امتزج بألم الفقد، فزاد بكائي اشتعالا، وكأن كل وجع داخلي وجد منفذا للخروج مع تلك اللحظة.
وفجأة، وفي خضم هذا الألم، همست ضاحكة وسط دموعي: آه، عارفة المشكلة في الدبوس، فابتسمت زوجة أخي رغم الحزن الشديد. وكانت ابتسامتها، مهما كانت خافتة، بمثابة شعاع صغير وسط الظلام، امتزجت فيه مشاعر الألم بالحنين والدمعة بالضحكة، لحظة مؤقتة من الانفراج وسط بحر الحزن، شعرت في تلك اللحظة بأن الحياة تذكرنا بأننا، حتى في الفقد العميق، ما زلنا نملك شيئا صغيرا نتمسك به ونبتسم له، رغم كل ما يحدث حولنا.
تلك اللحظة، رغم قصرها، أصبحت محفورة في ذاكرتي كرمز للإنسانية، للحياة التي تستمر، ولقدرتنا على العثور على لمحة من الدفء والضحك وسط أكثر أيامنا مرارة، وكأنها تذكير بأنه حتى في أعمق الحزن، هناك دوما شيء يستحق الابتسامة، شيء يجعلنا نشعر بأننا ما زلنا أحياء.

ابتسامة مرة… تقول نجات عطية:

«عندما استشهدت أختي ابتسام، كان كل شيء في غزة نادرا، حتى القهوة، ورغم شحها، أصررنا أن نقدمها في المآتم كما هي العادة، قهوة سوداء مرة، طعمها يشبه طعم الفقد في أفواهنا ومرارة الخسارة في قلوبنا.
كنت أدور بين النساء، أوزع الفناجين، وقلبي مثقل بالحزن، وكل خطوة كانت صعبة، وكل نظرة إلى وجوه المعزين كانت تذكرني بفقد أختي، فجأة، سقطت الفناجين من يدي وانسكبت القهوة على الأرض، شعرت بالحرج وازداد الحزن في صدري، لكن جارتنا أم خليل ابتسمت وقالت معليش، دلق القهوة خير.
فنظرت إليها للحظة، وابتسمت رغم وجعي، ثم قلت لنفسي بصوت خافت أي خير بعد هذا اليوم، فكانت ابتسامتي خافتة، خرجت من بين الدموع، كأنها محاولة يائسة للتمسك بالحياة وسط كل هذا الرحيل والفقد، شعرت بأن هذه اللحظة الصغيرة، رغم مرارتها، كانت بمثابة تذكير لي بأنه حتى في أحلك الأوقات، يمكنني أن أجد سببا للابتسامة، وأن أتمسك بالحياة رغم كل ما فقدته».

أم أحمد… خير مؤلم

تروي أم أحمد شحادة ذكرياتها بحزن ووجع عميق، فتقول إنها ذهبت لتعزية أختها نجاح باستشهاد ابنها، وكل خطوة كانت ثقيلة على قلبها. «دخلت البيت والدموع تسبقني، وقلبي مثقل بالحزن، ولساني عاجز عن الكلام، وكأن الكلمات فقدت معناها أمام حجم الفقد، كل خطوة كانت أثقل من سابقتها، وكل لحظة كانت تضيف وطأة جديدة على صدري، وكأن الحزن يضغط على قلبي من كل جهة، وصوت الصمت في البيت يثقل كاهلي أكثر. اقتربت من أختي نجاح، واحتضنتها بقوة، محاولة أن أنقل لها بعض الدفء وسط هذا الألم الغامر، شعرت بوجعها يتدفق إلى قلبي، وكأنه يملأ كل الفراغات في داخلي، وأحسست بأن كل دمعة منها تشق طريقها إلى أعماق قلبي، حاولت أن أجد كلمات تريح قلبها، كلمات تخفف عنها وطأة الفقد، لكن لساني خانني في اللحظة الأصعب، وخرج مني شيء غريب وغير متوقع كل عام وأنتِ بخير، بدلا من عبارة التعزية المعتادة عظم الله أجرك.
نظرت إليّ أختي بدهشة للحظة، ثم انفجرت بالضحك، ضحكت ضحكة قصيرة لكنها حقيقية، ووجدنا معا في تلك اللحظة القصيرة مساحة صغيرة من الفرح وسط بحر الفقد الذي يغمرنا، كانت ضحكتنا خافتة، لكنها حملت معنى أعمق، شعورا بأن الحياة، رغم كل الألم، ما زالت تسمح لنا بابتسامة، وكأن تلك اللحظة كانت شريانا صغيرا من الحياة وسط الصمت الثقيل والحزن العميق. لقد كانت لحظة قصيرة، لكنها أظهرت قدرة الإنسان على التمسك بالروح، حتى وسط أعظم الألم، ولم تكن مجرد ضحكة، بل كانت رسالة صغيرة إلى القلب: بأن الفقد لا يمحو القدرة على الشعور بالدفء، وأنه حتى في أحلك اللحظات يمكن للحياة أن تمنحنا لمحة صغيرة من الأمل، فرصة للابتسام ولو للحظة، قبل أن يعود كل شيء إلى صمت الحزن.
ففي نهاية كل فقد، تظل الضحكة والابتسامة خيطا رفيعا يربطنا بالحياة، حتى وسط الحزن العميق، يجد الإنسان القدرة على التمسك باللحظة، وعلى أن يضحك ويبكي معا، وقصص غزة تعلمنا أن الألم لا يقمع الروح، وأن بين الدموع دوما فرصة لصنع بصيص من الأمل يستمر معنا.



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *