من الكوميديا ديللارتي إلى فن الباليه


يعد بولشينيللا من أشهر شخصيات الكوميديا ديللارتي، ويتميز بقناعه الذي يغطي نصف وجهه بأنفه الطويل المعقوف وملامحه الحادة، وقبعته الطويلة، التي تشبه قالب السكر، وثيابه البيضاء الفضفاضة التي تبدو كملابس شخص بسيط من عامة الشعب، وربما تقترب من ثياب المهرج.
يوحي مظهر بولشينيللا بالسذاجة والخفة، لكنه في حقيقة الأمر يدعي السذاجة ويتظاهر بالغباء أحياناً، ليخفي ما يتمتع به من ذكاء ومكر ودهاء وقدرة كبيرة على استخدام الحيلة، ما يمكنه من التغلب على الكثير من المآزق التي يقع فيها، والنجاة من المشكلات الكبيرة التي تواجهه والإفلات من العقاب، قد يكون بولشينيللا خادماً أو سيداً، لكنه على كل حال يتحكم ويمسك بزمام الأمور بطريقته الخاصة وروحه الساخرة المتمردة. تمثل شخصية بولشينيللا الروح الشعبية في نابولي الإيطالية قديماً، ولا تزال هذه الشخصية حية ولا يزال أثرها مستمراً، ذلك الأثر الذي لم يتوقف داخل حدود إيطاليا، وإنما امتد إلى بلدان أخرى في أوروبا، كفرنسا وإنكلترا وألمانيا وروسيا، فصارت نموذجاً عالمياً بأشكال مختلفة في دنيا الفن.

سترافنسكي وموسيقى نابولي القديمة

ظهرت الكوميديا ديللارتي في إيطاليا في القرن السادس عشر، وهي من أقدم الفنون المسرحية، التي أسست للكوميديا وتقنيات المسرح، وطرق الإضحاك وقواعد الأداء التمثيلي، في ما يخص حركات الجسد والارتجال بشكل خاص. تعتمد الكوميديا ديللارتي على الأنماط الثابتة، وتقوم على مجموعة من الشخصيات التي تحمل صفات مشتركة يتفاعل معها البشر في كل مكان وزمان. لطالما كانت شخصيات الكوميديا ديللارتي ملهمة للعديد من الفنون الأخرى، سواء في لوحات الرسامين أو خيال المؤلفين، ولم يخل عالم الباليه أيضاً من التأثر بالكوميديا ديللارتي واستلهام شخصياتها، كباليه «بولشينيللا» الذي عرض للمرة الأولى عام 1920 على مسرح أوبرا باريس، وقام بإبداع هذا العمل مجموعة من كبار الفنانين في مجالات مختلفة، فقد صمم رقصاته وألف قصته ليونيد ماسين، وأعد موسيقاه إيغور سترافنسكي، وصمم ملابسه ومناظره بابلو بيكاسو. مدة العرض 40 دقيقة تقريباً، وهو من الأعمال التي لا تعتمد على الموسيقى البحتة وحدها، ونستمع فيه إلى بعض الأغنيات. في باليه بولشينيللا نكون مع أجواء الكوميديا ديللارتي بعمق، لا من خلال المظهر الشكلي والحركات للشخصيات الراقصة وحسب، وإنما من خلال الموسيقى أيضاً، حيث اعتمد سترافنسكي على الموسيقى الإيطالية والألحان النابوليتانية القديمة ورقصات التارنتيلا، كما اعتمد ليونيد ماسين في تأليف قصة الباليه على مسرحية من القرن الثامن عشر بعنوان «أربع بولشينيللات متشابهة».


يقدم هذا الباليه متعة مكتملة للمشاهد من خلال جميع عناصره الفنية، وهو من الأعمال المبهجة بقصته اللطيفة الشيقة وأجوائه الكوميدية، وتعد موسيقاه وأغنياته من أجمل المؤلفات الموسيقية، ولذلك صارت تسمع وحدها بعيدا عن الرقص من خلال ما يعرف لدى سترافنسكي باسم «متتالية بولشينيللا». يمزج التصميم الحركي للرقصات في باليه بولشينيللا بين الخطوات الأساسية للباليه الكلاسيكي، والحركات الشعبية الارتجالية المستوحاة من الكوميديا ديللارتي، فنجد الخطوط الدقيقة الكلاسيكية الصارمة تتداخل مع الخطوط العشوائية الكاريكاتيرية المبالغ فيها، ويتسم رقص بولشينيللا بالخطوات الملتوية والانحناءات غير المنتظمة، وحركات الرأس واليدين، التي توحي بالمكر والخداع. ولأن أجواء الحب والغزل حاضرة في هذا العمل بمصاحبة غنائية رقيقة، نجد في هذه المشاهد حركات ناعمة وتمددات ودورانات رشيقة حالمة، واللوحات التعبيرية المصممة بانسيابية حركية كبيرة.

بيكاسو والإيهام البصري

يبدأ الباليه باحتفال شعبي فيه ما يشبه فنون السيرك، ونرى العرائس والدمى المختلفة والمهرج والراقصين، وتظهر الباليرينا في رقصة منفردة، ثم نرى فلوريندو وكلوفييلو يغنيان لبرودينزا وروزيتا، ويحاولان أن ينالا إعجاب الفتاتين الجميلتين، وفي أجواء الحب والمرح والشباب، يقدم كل منهما رقصة ثنائية مع فتاته. ثم يأتي بولشينيللا بقناعه الشهير ولباسه المميز وحركاته السريعة الخاطفة، يداعب الفتاتين ويلتف من حوله عدد من الفتيات الأخريات، ما يثير غيرة فلوريندو وكلوفييلو وبقية الفتيان، فبولشينيللا يستحوذ على اهتمام الفتيات ويجذبهن نحوه ويستطيع أن يضحكهن. لا يجد فلوريندو وكلوفييلو حلاً سوى أن يذهبا ليخبرا بيمينيلا حبيبة بولشينيللا بما يحدث من اجتماع الفتيات حوله ومرحه معهن، تشتعل الغيرة في قلب بيمينيلا وتغضب غضباً شديداً، ويجد بولشينيللا نفسه في مأزق ويلجأ إلى الحيلة كعادته للنجاة من المواقف الصعبة، فيتفق مع صديقه فوربو على أداء تمثيلية معينة، ويتم تنفيذها بالفعل، حيث يسقط بولشينيلا أمام الجميع مدعياً الموت، ويتجمع الناس من حوله ويبكونه، خصوصاً الفتيات اللواتي يضعن الورود والأزهار على جثمانه، أما حبيبته بيمينيلا فتفقد الوعي حزناً عليه وألماً على فراقه، وفجأة في تلك الأجواء الجنائزة يظهر صديقه فوربو مرتدياً عباءة ساحر، ويدعي أنه يستطيع أن يعيد بولشينيللا إلى الحياة، وبالفعل ينهض بولشينيللا وفق الخطة التي وضعها مع صديقه، يفرح الجميع بعودة بولشينيللا إلى الحياة وترتمي بيمنيلا في أحضان حبيبها، وقد نسيت وغفرت له مداعبته للفتيات.
بعد ذلك يذهب الباليه إلى المزيد من الإيهام والاعتماد على التشكيلات البصرية البديعة، فيتم التركيز على شكل بولشينيللا وحده بعيداً عن شخصيات الباليه الأخرى، بل أكثر من بولشينيللا، كما يدل عنوان المسرحية المستوحاة منها الباليه. يزيد عدد البولشينيللا تدريجياً على المسرح، فنرى اثنين ثم ثلاثة ثم أربعة، إلى أن يتضاعف العدد بشكل كبير جدا، ونكون أمام مجموعات هائلة من البولشينيللا المتشابهة، التي تملأ خشبة المسرح، ونجد لمسات بيكاسو البارزة، حيث نرى ثلاث بولشينيللات على درجة كبيرة من الطول حيث الوقوف على الأقدام الخشبية المرتفعة، ويفكر المشاهد في ظهورهم الغامض الذي لا يستمر طويلاً، كما يبحث المشاهد عن بولشينيللا الحقيقي وسط تلك المجموعات الهائلة المتشابهة. ويبدأ البحث عن بولشينيللا الحقيقي على خشبة المسرح أيضا، ويكون ذلك عن طريق اختبار خلع القناع، فبولشينيللا المزيف ينخلع قناعه، أما بولشينيللا الحقيقي فلا ينخلع قناعه كما لو كان جزءاً لا يتجزأ من وجهه.

 كاتبة مصرية



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *