مقاربة في مسرحة العنف والسلطة



مونيكا رويوكو/ ترجمة: عبد المنعم الشنتوف

تقترح المستعربة الإيطالية مونيكا رويوكو في هذه الدراسة التي نقدم ترجمتها العربية قراءة في تجربة الكاتب والمخرج المسرحي السوري وائل قدور الذي يقيم في باريس. يمكن اعتبار تجربة قدور امتدادا لتجربة سعد الله ونوس في سعيه الى «مسرحة» العنف الذي تمارسه السلطة بمختلف تمثيلاتها على حياة الافراد في سياق ما عرفته سوريا قبيل وبعد الانتفاضة ضد نظام الأسد. تعمل الكاتبة أستاذة للغة والاداب العربية في جامعة نابولي. وقد نشرت الدراسة في محلة المسرح والجمهور الباريسية.

يمكن النظر إلى تاريخ 15 مارس 2011 الذي شهد بداية التمرد ضد نظام الأسد بوصفه مفتتح مرحلة جديدة في تاريخ المسرح السوري. وقد حاول المواطنون السوريون في فبراير 2011 تنظيم مظاهرات في شوارع دمشق ضد نظام الأسد وجرى حظر بعض مواقع الانترنت. وقد قررت الحكومة بعد شهر من ذلك السماح باستعمال يوتيوب وصفحة فيسبوك «الثورة السورية ضد بشار» التي كان الناشطون ينشرون فيها بانتظام. يمكن للاحتجاج ان يتنظم وقد تمت دعوة السوريين إلى التحرك والتعبئة يوم 15 مارس 2011 في كل المدن والمحافظات ضد النظام وحالة ومحاكم الاستثناء والاحتجاج ضد قانون ما يفتا ساري المفعول منذ 1963. حرر اندلاع شرارة التمرد الذي شارك فيه العديد من الفنانين المسرحيين والذين جرى اعتقال بعضهم طاقات إبداعية خلاقة تلقائية إلى حد ما ومنظمة وفق أنماط لم يسبق لها نظير في سورية.
من الثورة إلى الشتات: نحو دراماتورجيا سورية جديدة
أسهم المسرح منذ 2011 في أشكال الصراع التي خاضها الشعب السوري. وقد سعى رجال ونساء المسرح الذين يعبرون بطريقة فنية إلى تقديم شهاداتهم عن واقع الحرب في سورية وحالات التعذيب والاختفاء القسري للناشطين. وقد أسهموا من خلال الممارسة المسرحية في النضال ضد النظام قبل ان ينتهي الأمر بتغيير الواقع السياسي للبلاد كلية. يعمل هولاء الفنانون في العالم العربي وفي اوربا أيضا. ويتعين علينا التشديد والحالة هذه على الدور الذي يضطلع به سوريو الشتات. والحال ان احدى تبعات الحرب في سورية تتمثل في تهجير وترحيل الملايين من السوريين وقد جرى عام 2018 إحصاء 18 مليون مواطنا تم ترحيلهم وضمنهم ٦ مليون داخل القطر السوري.
على الرغم من الصعوبات التي يعانون منها داخل بلدانهم وفي الخارج فان كثيرا من المواهب ظهرت إلى الوجود خلال السنوات الأخيرة وتمثل لها بالفنانين وائل علي ومحمد العطاروالمخرج محمود أبو سعدة الذين بدأوا نشاطهم عند تأسيسهم في دمشق لمحترف استوديو المسرح. وكان التوأم الفني ملص وهما مولفان وممثلان قد أسس في دمشق مسرح الغرفة الذي تجري عروضه داخل شقة الاسرة. وشأن غالبية القناتين والفنانين فانهم يعيشون حياة المنفى القسري في فرنسا غالبا ويتقاسمون رهانا اوليا يتمثل في الحفاظ على ذاكرة الشعب السوري.
يقترح جل هولاء الفنانين مسرحا سوريا حرا من أي صغط فيما لم يكن قطاع الثقافة المستقلة قبل 2011 يستحق بما يكفي هذه الصفة خلافا للمؤسسات الرسمية التي تمولها الدولة. يتعلق الأمر بصناعة ثقافية غير منتجة ولا الق لها تسيرها بيروقراطية كاتمة للأنفاس ومنسلخة عن الواقع. وقد ظهر إلى الوجود عقب الثورة جيل جديد من الكتاب المسرحيين كانت نصوصهم شديدة التأثر بالتفكير حول الحرب والصدمات المترتبة عليها والمنفى. وتمثل لذلك بتجارب مضر الحاجي ورغدة الشعراني وأسامة غنام ووائل قدور الذي يشكل موضوع دراستنا.
يمكن دون شك اعتبار وائل قدور ممثلا لجبل جديد من المسرحيين في سورية علاوة على نشاطه الشديد في مجال التواصل الثقافي. ولد في دمشق عام 1981 وهو خريج المعهد العالي للفنون المسرحية ويقيم حاليا في باريس. وهو كاتب ومخرج مسرحي يهتم تخصيصا بحكايات الأفراد والعلاقات التي تصل بينهم في ارتباطها بالواقع الاجتماعي والسياسي في سورية. وتناطر نصوصه في سياق تراث المسرح السياسي السوري الذي بلغ أوجه مع نصوص سعد الله ونوس التي تحلل اشتغال السلطة وتفضح العنف الذي يمارسه النظام.. ويتمثل قدور المسرح بوصفه مسجلا للتحولات التي احدثتها هذه الثورة ليس فقط فيما يهم التوازن السياسي والاجتماعي للبلاد وانما على ذهنية السوريين.
قام وائل قدور بوصفه مخرجا بإخراج مسرحية مرتجلة اوهيو المقتبسة من مسرحية برتران بريخت: اوهيو انتيرومبتو. ومسرحية كاريل تشرشل بعيد جدا والغرف الصغيرة وعندما تبكي فرح لمضر الحاجي وطقوس الإشارات وابتحرلات لسعد الله ونوس. وهو يولي أهمية كبيرة في سياق اشتغاله المسرحي على نشر النص وتوزيعه.
كتب وائل قدور ونشر العديد من النصوص التي ترجمها إلى اللغة العربية. وتعكس النصوص التي قام بتأليفها منذ عام 2013 تعقد الأوضاع داخل البلاد بعد سنتين من الحرب وبعد ان فقد الصراع بعده السوري الخالص. وسيواصل قدور على الرغم من ذلك الإهتمام بحميمية ودواخل شخصياته في غمره عمله الدرامي.

النص المسرحي بعد الثورة

تدور احداث مسرحية الغرف الصغيرة عام 2010 قبيل اندلاع الثورة في دمشق التي مثلت نبع الإلهام الرئيس لوائل قدور. والحال ان المدينة وغالبية سكانها كانوا ينعمون في الظاهر بمرحلة استقرار. وكما هو الشأن بالنسبة لمسرحية خارج السيطرة فان الشخصية المحورية امراة واسمها سبا. وهي تعيش في حالة من العزلة داخل شقتها صحبة أب محتضر وأخ متسلط. وسوف تستسلم سبا لوضعية انتظار لا نهاية لها وهي تتطلع إلى فرص العمل والحب المتوالية إلى حين ظهور سعد العامل في السوبرماركت الواقع في نهاية الشارع.
تعاني الشخصيات الأربع لمسرحية الغرف الصغيرة: سبا وعمار وحنان وسعد من الخوف والصراعات الأخلاقية والتوترات الباطنية مع المجتمع السوري داخل غرفهم الصغيرة التي لا يستطيعون الفكاك منها. وهم جميعهم يبحثون عن وسيلة للبقاء على قيد الحياة. وسبا التي أمضت ثمان سنوات من حياتها في مساعدة أبيها الذي كان في حالة غيبوبة امراة شابة ساذجة وبريئة. لا يكتفي النص بوصف المجتمع السوري والذهنية العربية المزعومة وانما يحلل الشخصيات الأربع والخدود السيكولوجية والسياسية لحياتهم. ويصبو كل واحد منهم إلى ثورة شخصية لن تتحقق إلا من خلال الام اشخاص اخرين. ويمكننا بداهة قراءة النص في ضوء الاحداث التي سوف تشهدها سورية منذ 2011.
يتاسس نص «الاعتراف» على مقاربة فنية وطموح إلى البحث عن مفهومي العنف والصفح في سياق الشهور الأولى من الثورة السورية. ويتأسس هذا النص على خلاصات يحث يهم عسكرة الحراك السلمي ومقارنة بين الاحداث الراهنة والصراعات السياسية في سورية ابان عقد الثمانينات ويحاول تسليط الضوء على الطريقة التي يجري وفقها التمثيل التبسيطي للموت اليومي للسوريين.
تتمثل الشخصيات الرئيسة في رضوان الجندي الذي يقوم بخدمته العسكرية وعمر المخرج والممثل وجلال الضابط المتقاعد وهيا وأكرم وهما ممثلان.. شرع جلال بعد تقاعده من عمله خلال مرحلة الاستقرار السياسي في سورية في مرافقة ابن شقيقه عمر الذي كان يعد مسرحية جديدة مقتبسة من نص الكاتب الشيلي الأرجنتيني آرييل دورفنان: الفتاة والموت. لكن النظام لم يلبث ان طلب من جلال العودة إلى الخدمة بعد الانتفاضة الشعبية التي عرفتها البلاد؛ وهو ما أيقظ في داخله رغبة قديمة في السلطة طالما حاول لجمها. وقد أعطت طريقة اخراج مسرحية دورفمان الفرصة للمثلين قصد التفكير في الاحداث التي تعصف بالبلاد. وعندما شرع النظام في وضع عمر تحت المراقبة فان أكرم الذي كان معتقلا سياسيا وممنوعا من مغادرة البلد يجد نفسه وجها لوجه امام جلال الذي تحقق عنده الوعي بالحرب الوشيكة والذي نصحه بعرض المسرحية خارج البلاد.
شرع وائل قدور في كتابة مسرحية «وقائع مدينة لا نعرفها» وأخرجها بمساعدة محمد ال رشي الفنان والمخرج الذي اعتقل عام 2011. وتعالج هذه المسرحية ثنائية الحب والعنف في دمشق قبل وخلال انتفاضة مارس وفي غمرة صعود نجم الجيش السوري الحر والتحولات التي عرفها المجتمع السوري. يستعيد قدور في هذا العمل الحكاية الحزينة لشابة كان يعرفها وأقدمت على الانتحار مباشرة بعد الانتفاضة. يصف قدور المجتمع السوري لما قبل الثورة والمدموغ بالعنف الذي يهيمن على حياة كل فرد والذي يعتبر محصلة نظام سياسي واقتصادي واجتماعي وديني فرض على سوريا منذ عقود. ويسعى قدور الى منح الفرصة لضحايا العنف للتعبير وكشف مسوولية المجرمين على خشبة المسرح. ووفق هذا المنحى تفرض تجربة قدور حضورها في بانوراما المسرح العربي المعاصر باعتبار نجاحها في اسباغها للبعد التراجيدي على الحكايات الشخصية والمصير الجمعي للشعب السوري.

 كاتب ومترجم مغربي



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *