جنين- «القدس العربي»: مرّ اليوم العالمي للطفل وكأنه غير موجود بالنسبة لعشرات الآلاف من الأطفال في الضفة الغربية. أما في مخيمات شمال الضفة فالأمر كان أكثر سوءاً وبؤساً، فنحو سبعة آلاف طفل يعيشون حياة صعبة للغاية بعد أن عاشوا وما زالوا يعيشون تجربة النزوح منذ ما يقرب من عام.
في مدينة جنين ظهرت مجموعة من أطفال مخيم جنين في موقف مختلف، فشكّلوا جزءاً من معرض فني عرض أعمالهم التي قاموا بصنعها بعد أن شاركوا في مسار تدريبي حمل اسم “حرفة وحكاية” ونظمته “مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي” على مدار أشهر.
وفي يوم الطفل العالمي، نظمت “مؤسسة تامر” معرض “حرفة وحكاية”، لعرض مساحة من إبداعهم بحضور مؤسسات ومدربين ونشطاء وأطفال وعائلات فلسطينية هجِّرت من مخيمها، حيث نسجت الأعمال من أبسط التفاصيل أوسع القصص، وجعل نشطاء يرون أن الفضاء الفني شكّل دعوة إنصات “لصوت الجيل القادم، وحالة من الاحتفاء بإبداعاته”.
وقدّم المعرض مخرجات سلسلة من الورش التي نُفِّذت مع مئة طفل وطفلة أُجبروا على النزوح من مخيم جنين. حيث عمل الأطفال على إنتاج مواد حرفية شملت الصلصال، والرسم على الزجاج، والفسيفساء، وصناعة الدمى، والحفر على الخشب والشمع. كما قدّموا مجموعة من القصص والرسومات والكتابات التي تحاكي تجاربهم مع النزوح والفقد والحنين إلى أماكن بعيدة ومنازل لم تعد موجودة.
وكشف المعرض لمن تجوّل بين جوانبه كيف تتحوّل الحِرف من وسائل للعيش إلى أدوات للنجاة، وكيف تتقاطع القصص الفردية مع قصص جمعية لم تبدأ مع ولادة هؤلاء الأطفال، بل تمتد لعشرات السنين قبلها. وحسب منسق المشروع أحمد عمارنة، فإن الورش على امتداد أشهر طويلة والمعرض بصفته مخرجاً عنها يحاول أن يجيب عن أسئلة: “كيف يصبح الحنين شعوراً جماعياً؟ وكيف يُورّث من جيل إلى جيل؟ وكيف انتقلت عبارة “جنين قلعة الصمود” من جدران المخيم إلى اللوحات الزجاجية التي نراها في هذا المعرض؟”.
يقول عمارنة لـ”القدس العربي”: “يضم المعرض أيضاً أعمالاً لم يتمكن الأطفال من إكمالها نتيجة لأسباب شخصية، أو حملات للاحتلال، أو مرض، أو غيرها من الظروف القسرية”.
ويقدّم الأطفال في المعرض الذي يفتتح بالتوازي مع معرض آخر في مدينة طولكرم يعرض منتجات أطفال في مخيمي نور شمس وطولكرم، توثيقاً لتجاربهم مع التهجير والنزوح، وكل ما يرتبط بذلك من قلق وخوف.
وبمقدار ما يعكس المعرض حالة فنية من التوثيق العفوي واللحظي، فإنه ينفتح على تأويلات وأسئلة في المستقبل. فالأطفال في المعرض هم أبناء مخيم جنين الذي هجّروا منه قبل نحو عام، حيث سُلبوا من أي فعالية ووُضعوا في ظروف صعبة للغاية، لكنهم عبر المعرض ظهروا للحضور على أنهم فاعلون في تسجيل تجربتهم وفي روايتها وتمثيلها أيضاً.
في حفل الافتتاح قال منسق المشروع أحمد عمارنة مخاطباً الأطفال: “بإبداعكم نحكي، ومن حكاياتكم نبدأ خطوة خطوة، سرنا معاً في ظل الحرب الشرسة وهذه الظروف الصعبة”.
وقال عمارنة لـ”القدس العربي” إن “أحلام الأطفال صنعت فرقاً في لحظة عبّر عنها المعرض، حيث تعميق الإحساس بالأرض، وحكي القصص والحكايات عبر الصناعات التقليدية، والحرف اليدوية التي تعتبر هوية واضحة لكل قرية وبلدة صغيرة في فلسطين”.
وتابع عمارنة: “نقول جنين فنذكر سهول البطيخ، والملوخية والبامية والقمح، وبسaطات الهريسة، ورائحة مناقيش الزعتر، نقول بلدة جبع فنشم رائحة التراب، ونلمس الطين، ونشرب من جرار الفخار، حكايات كثيرة تكتنز بها الأماكن والأيادي والمعاول”.
احتوى المعرض أعمال الأطفال المختلفة، وهو ما تم احتضانه في مركز الطفل الثقافي الذي يقع مجاوراً للمركز التجاري لمدينة جنين، وعلى مدى أشهر تجمع عشرات الأطفال يومين في الأسبوع حيث شاركوا في لقاءات مخططة بهدف الترفيه عنهم ودمجهم بمشروع بناء لتطوير شخصيتهم وإكسابهم المهارات.
ويؤكد الأطفال الذين تحدثت معهم “القدس العربي” عمق علاقتهم بالمخيم الذي أُبعدوا عنه، وعلى أن حياتهم انقلبت رأساً على عقب بعد النزوح الذي جربوه للمرة الأولى.
تقول الطفلة سارة: “لقد تركنا المخيم، النزوح أجبرنا على الخروج من المخيم، أصحابي تفرقوا في مناطق متفرقة من المحافظة”.
وكان يلتقي الأطفال في مركز الطفل ضمن ذات المبادرة التي حملت اسم المعرض أيضاً “حرفة وحكاية”.
وكجزء من التدريب الأسبوعي كان يتم جلب الأطفال ذكوراً وإناثاً عبر حافلات صغيرة من مناطق متفرقة من محافظة جنين، وهي تعكس خريطة نزوح عائلات المخيم في أنحاء المحافظة الممتدة.
الحافلة الأولى كانت تأتي من منطقة سكنات الجامعة العربية الأمريكية جنوب المدينة (10 كم عن المدينة)، حيث تم استيعاب مئات العائلات في مساكن صغيرة كانت مخططة للطلبة الجامعيين. أما الحافلة الثانية فكانت تجلب أطفالاً متفاوتي الأعمار من منطقة “حي خروبة”، إحدى الضواحي التي تقع شمال المدينة وبالقرب من حاجز الجلمة الذي يفصل جنين عن الخط الأخضر.
ويأتي أطفال أيضاً من مختلف المناطق مثل: بلدتي كفردان وبرقين غرب المدينة، وكذلك من بلدة دير أبو ضعيف شرق المدينة، ومن أحياء متفرقة في المدينة، وهي بمجملها تعكس خريطة الشتات الجديد الذي فُرض على الأهالي.
وإلى جوار المعرض يمكن رؤية داخل قاعة واسعة مبلطة بالخشب في مركز الطفل كتابات الأطفال في تفاعلهم مع نقاش مفاده سؤال عن “الفرق بين بيتهم في المخيم وبيتهم في الأماكن التي نزحوا إليها”.
ويظهر بوضوح من خلال خطوط متعثرة مقدار المعاناة التي يعيشها الأطفال، وهذه المرة من باب تغير المنزل ـ البيت على حياتهم، وذلك الحنين الكبير لمنازلهم في المخيم الذي ما زال يعيش تدميراً واسعاً.
وعلى الورقة على اللوح القلاب يمكن قراءة إجابات الأطفال أسفل عنوان “بيتنا بالمخيم”، حيث كتبوا: “الجيران أحسن، البرندة كثير صغيرة لكنها كبيرة وبشوف منها وسط المخيم، وبيتنا كبير، كان محاطاً بالأصدقاء، بيت صغير بس كبير جداً، ولدينا أصدقاء، وكان يجمعنا كل العيلة”.
وفي ورقة كبيرة معلقة على حائط مقابل كتب الأطفال أسفل عبارة “بيتنا بالمخيم”: “المطبخ كبير، كل واحد إله غرفة، البيت كان كبير، باب البيت مقابل لباب صاحباتي، البيت واسع وجميل جداً، كان حلو.. بيتنا بالمخيم هو دارنا، أهل المخيم قلوبهم كبيرة.. الخ”.
أما في المنازل الجديدة التي نزحوا إليها فقد كتب الأطفال: “كل واحد اللهم نفسي، برندة صغيرة، ليست لدي صديقات في محيط المنزل، بيت كبير لكنه مش حلو ومش منيح، البيت صغير جداً. لا يوجد أصدقاء، كل واحد بجهة وبمكان”.
وتابع الأطفال كتابة: “كلنا بغرفة صغيرة كثير، باب البيت على الشارع مباشرة، من دون صاحبات، بيتنا بعمارة وأهلها ما بعرفوا بعض، شوي شوي صار حلو”.
وأسفل عنوان “بيت المخيم” ترى قلوب حب حمراء وسوداء وورداً متناثراً، فيما كتب الأطفال بخط جميل عندما وصفوا تفاعلهم خلال التمرين.
وبين فترة وأخرى كان يجد الأطفال فرصة للنظر من باب مركز الطفل باتجاه الغرب، حيث لا يبعد المخيم عن معرضهم سوى نصف كيلومتر، لكن أكوام التراب على مداخله تضع حداً لنظراتهم وتكبح رغبتهم بالذهاب إليه مشياً.
وحسب “مؤسسة تامر” القائمة على مشروع أطفال المخيم، فإنه بدل أن يعيش الأطفال في مساكن معزولة عن محيطهم الاجتماعي فإنهم يأتون أسبوعياً ليكونوا معاً بين أنغام الموسيقى، وألوان الرسم، ورائحة الخشب، وملمس الطين، وخيوط التطريز.
ومنذ نحو عشرة أشهر تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي حملتها العسكرية “السور الحديدي” التي بدأت أواخر يناير / كانون الثاني الماضي في مخيم جنين، ومنه توسعت لتطال مخيمي طولكرم. وأدى العدوان على تلك المخيمات إلى تهجير قسري لأكثر من 47 ألف لاجئ وتدمير 1250 منزلاً ومبنى سكنياً على الأقل بشكل كلي، وتضرر آلاف المنازل والمنشآت، في ظل استمرار إغلاق مداخل المخيمات.