لم يستطع الرئيس قيس سعيّد أن يمسك نفسه أكثر من ثلاثة أيام ليعلّق غاضبا على المظاهرة التي خرجت بعد ظهر السبت تحت شعار «ضد الظلم».
فجر أمس الثلاثاء، كعادة البيانات الرئاسية التي لا تصدر إلا فجرا، جاء في موقع رئاسة الجمهورية أن الرئيس ولدى استقباله رئيسة الحكومة «شدّد على أنّ الدّولة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام من يريد التّنكيل بالمواطنين بأيّ شكل من الأشكال، أمّا الذين ارتهنوا البلاد وأرادوا تفجيرها وتقسيمها والتفويت في سائر مقدّراتها بعد أن كانوا خصماء الدّهر في الظّاهر وصاروا اليوم حلفاء وخلّانا يوزّعون الأدوار في ما بينهم، فتنسحب عليهم التّهمة التي كرّستها بعض التّشريعات وهي المشاركة في اقتسام المسروق، ومحكمة التاريخ أصدرت قرارها النّهائي وهو لا عزاء للخونة ولا رجوع إلى الوراء».
لم يطق الرجل صبرا ليعلّق على مظاهرة خرجت في شوارع العاصمة بأعداد محترمة رغم الطقس الممطر فرأى في المشاركين فيها «خونة» كالعادة، لكن الواضح أن أكثر ما غاظه فيها هو نزول عائلات سياسية مختلفة، فرّقتهم خلافات عديدة في السابق، لكن لم يجمعهم شيء كما جمعتهم معارضة قيس سعيّد.
لقد اتسمت مظاهرة السبت بثلاث خصائص أساسية كبرى: الأولى، أن عمودها الفقري كان من الشباب المتعطّش إلى العدالة واستقلال القضاء وحرية التعبير ودولة القانون التي تفتح الآفاق الواسعة أمام قواها الحية الشابة التي لا ترى في واقع البلاد إلا كل إحباط. الثانية، أن الوجوه السياسية التي شاركت فيها كانت من تيارات مختلفة سبق أن دخلت في السنوات التي أعقبت ثورة 2011 في خلافات، منها ما هو طبيعي لكن كثيره مفتعل، لم تؤد في النهاية سوى إلى انتكاسة التحوّل الديمقراطي العسير فضاعت المكاسب وخسر الجميع ليعود الاستبداد في أتعس مظاهره. أما الثالثة، فهي أن الشعارات التي رفعت من قبل المتظاهرين، الذين ارتدوا السواد في مسيرتهم التي جابت شوارع هامة في قلب العاصمة، انصبّت جميعها على سعيّد شخصيا باعتباره الحاكم بأمره والمسؤول الأول والأخير عن كل ما تعيشه البلاد من مآس منذ انقلابه على الدستور في يوليو/ تموز 2021 وصولا إلى احتكاره كل الصلاحيات بعد أن كتب وحده دستورا جديدا، في سابقة لم تعرفها على الأرجح أي دولة أخرى في العالم، إلى جانب غياب أي انجاز له مهما كان نوعه.
التقاء تيارات سياسية مختلفة على نقطة مركزية وجوهرية هي أن سلطة الأمر الواقع التي يرأسها قيس سعيّد استنفدت أغراضها وأفلست بالكامل
هذه المظاهرة، التي تجاهلها معظم الإعلام في تونس، بعد أن عاد إلى بيت الطاعة والتعتيم التي تربى فيها لعقود طويلة، لم ير فيها الرئيس ما يستحق التوقف أو التأمّل، ناهيك عن المراجعة أو التغيير اللذين باتا ملحيّن للغاية. أما الواضح أكثر من غيره في رد الرئاسة، الغاضب والمتشنّج كعادته دائما، فهو سخطه على التقاء تيارات سياسية مختلفة على نقطة مركزية وجوهرية هي أن سلطة الأمر الواقع التي يرأسها استنفدت أغراضها وأفلست بالكامل، ولم يعد ممكنا أن تستمر أكثر، في وقت تنهار فيه كل مقوّمات الدولة وركائزها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
التقاء الإسلاميين واليساريين والقوميين والليبراليين، ومن ليست لديهم انتماءات أيديولوجية محدّدة، على كلمة سواء هي معارضة استمرار العبث الحالي هو أكثر ما استفزّ الرجل ولهذا ردّ عليه بهذه الحدة. قوة سعيّد الأساسية هي تشتّت معارضيه وبقاء تناقضاتهم السابقة حيّة، رغم أن أغلبها لم تعد له وجاهة تذكر في عالم اليوم، وبالتالي فإن أكثر ما يرعب الرجل هو التقاء خصوم الأمس عند أرضية مشتركة هي استعادة الديمقراطية التي صادرها انقلاب سعيّد.
ما يدفع أكثر نحو هذا الالتقاء هو دخول قوى شبابية على خط المعارضة، لا تحرّكها خلافات أيديولوجية عفا عليها الزمن، وإنما طموح جارف للحريات ودعائم العدل ودولة القانون، ويفتح آفاقا أمام جيل طموح لم تترك له المنظومات السياسية المتعاقبة سوى خيارات محدودة أبرزها الهجرة بعد نفض اليد من التغيير حتى سمّاهم الصحافي فراس العشّي بـ«الجيل المطرود» الذي صار عنوانا لكتابه.
هنا يبدو قيس سعيّد، المفتون بسنوات الستينيات وبالإحالات التاريخية السياسية وحتى الأدبية من الجرير والفرزدق وغيرهما، هو النقيض لهذا التوجه الشبابي الجارف الذي سخر منه بعد أحداث مدينة قابس التي انتفض شبابها وشيبها ضد التلوّث في مدينتهم. هو أيضا النقيض لأي وحدة وطنية تجمع كل القوى السياسية في محاولة لإنقاذ البلاد لأنه لا يراها إلا من زاوية أنها تهديد لسلطته المنفلتة من كل عقل وعقال.
نقطة أخرى قد تكون ساهمت في مزيد استفزاز قيس سعيّد وهي أن مظاهرة السبت الماضي التي خرج فيها زهاء الخمسة آلاف، والتي ستليها مظاهرات أخرى بُرمجت من الآن، جمعت ما لم يستطع أن يجمعه أنصاره ولو لمرة واحدة. في كل مرة تُسخّر كل الإمكانات لتجميع هؤلاء لكن في النهاية لا نرى منهم إلا بضع عشرات بشعارات وممارسات هي إلى التهريج أقرب منها إلى أي تعبير سياسي مهما كان.
كاتب وإعلامي تونسي