ما هو الوضع الذي يثير سؤال المصالحة الوطنية بعد أقل من عام واحد على أكبر تغير سياسي في تاريخ البلد من استقلاله؟ إنه الوضع الذي نشأ في البلد إثر مجازر إبادية تعرض لها العلويون في آذار من هذا العام والدروز في تموز على يد قوات الحكم السوري الجديد وشراشيره. المقصود بالشراشير مجموعات شبه نظامية أو غير نظامية، موالية للحكم، تعادي أعداءه المتصورين، مثلما كانت ظاهرة الشبيحة بعد الثورة السورية. والشراشير ظاهرة بنيوية في الحكم الجديد، تتصل بتكوين فصائلي، غير موحد وغير منضبط، لقواته المسلحة، بانتشار السلاح في المجتمع، وبامّحاء الحدود بين «الدولة» والمجتمع السني أو قطاعات واسعة منه، وفي المحصلة بكون هذه الحدود مشرشرة، كثيرة الاستطالات والأصابع والمجسّات، تظهر فيها الدولة كمجتمع فوضوي هي ذاتها. وإنما لأن هذه الظاهرة بنيوية وليست عارضة، ولأنها تكررت مرتين وبأساليب إجرامية متماثلة، فإن الحكم الحالي هو من يتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية عن موجتي المجازر هاتين في الساحل والسويداء، وهو من يتعين عليه المبادرة إلى إصلاح ما وقع ومصالحة المعتدى عليهم.
هاتان الموجتان ليستا «أخطاء» مثلما قال الرئيس الانتقالي أحمد الشرع أكثر من مرة، بل هي مجازر إبادية، استهدفت مرة علويين لأنهم كذلك، ومرة دروزا لأنهم كذلك أيضاً. لا يمكن إنكار هذا الوجه الإبادي حتى لو كانت مجازر الساحل رداً على تمرد مسلح من قبل فلول من بقايا الحكم الأسدي، ومهما أمكن للمرء أن يتحفظ على مسلحي السويداء وقيادتهم الدينية وتجاوزات من طرفهم. حين يقتل علويون لأنهم علويون، أخوة هنادي زحلوط الثلاث مثلاً، أو دروز لأنهم دروز (سبعة من عائلة رضوان مثلاً) أي حين يقتل الناس جماعياً لهويتهم، فإننا حيال مجازر إبادية، وليس حيال «خطأ» عارض يمكن أن يحدث في أي وقت ومن قبل أي كان. سقوط 1500 في الساحل خلال أربعة أيام، وما قد يصل إلى 2000 في السويداء خلال بضعة أيام كذلك، هو كارثة إنسانية ووطنية، ويتعين التعامل معها بهذه الصفة لا بغيرها. وهو ما يبقى صحيحاً لو كان المرتكبون جماعة أهلية أخرى، لكنه أصح بما لا يقاس حين يكون المرتكبون من «الدولة»، من متنها كما من شراشيرها. القول إن الدولة ارتكبت أخطاء ارتكب مثلها غير الدولة يضيع فكرة الدولة ذاتها بوصفها القوة العام المنظمة التي لا تبرر أخطاءها بأخطاء غيرها، وتتحمل المسؤولية عنها علانية إن فعلت.
ونعلم فوق ذلك أنه واكبت حملتي الإبادة عمليات إذلال مشينة، سبقتها بخصوص العلويين انتهاكات كثيرة وعمليات قتل وإذلال كثيرة ذات طابع هوياتي. ولم تكن مجازر السويداء غير مسبوقة، فقد سبقتها عمليات اعتداء وقتل في أشرفية صحنايا، وتعبئة هوياتية مسعورة. في الحالين كذلك جرى خطف نساء، ما يشير إلى عقلية استباحة مترسخة في أوساط قوات وشراشير الدولة. ولا تزال عشرات القرى الدرزية حول السويداء مخلاة من سكانها، تحتلها القوى المهاجمة.
ومعلوم أن موجتي المجازر أثارتا دعوات عالية الصوت إلى التقسيم أو الحكم الذاتي أو الحماية الدولية ضمن الجماعتين الأهليتين المستهدفتين، أي إلى أشكال من القطيعة الوطنية، هي ما تثير السؤال عن إمكان المصالحة الوطنية. المجزرة والتقسيم وجهان للعملة ذاتها، فلا مجال للتخلص من أحد الوجهين دون التخلص من الآخر، ووضع الأسس الدائمة كيلا يعاودا الظهور في آفاقنا. وبعبارة أخرى، المصالحة الوطنية هي جملة الجهود الهادفة إلى تجاوز وضع المجزرة والتقسيم، وكذلك المدخل إلى اجتماع وطني معافى.
المصالحة الوطنية هي جملة الجهود الهادفة إلى تجاوز وضع المجزرة والتقسيم، وكذلك المدخل إلى اجتماع وطني معافى
وأول عملية المصالحة تسمية ما جرى باسمه: مجازر إبادية، اجتمع فيها القتل الجماعي مع الإذلال الجماعي. فإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، تعين الاعتذار والتعبير عن الأسف، ومن قبل الشرع دون غيره لأنه رأس الحكم الجديد، ثم التعهد بجبر الضرر. ليس الاعتذار وجبر الضرر شرطاً استفزازياً أو تعجيزياً، وهو إن كان يحتمل أن يثير استياء قطاعات من جمهور الحكم الحالي، فإنه يحتمل لقطاعات أخرى أن ترى فيه بادرة شجاعة، تعبر عن تحمل المسؤولية، وتضعف دعوات التقسيم وتصون وحدة البلد، وتسهم في تطييب خواطر الغاضبين المهانين. إن عمل القيادة هو أن تقود لا أن تنقاد، والقيادة هي المبادرة إلى أفعال شجاعة تغير البيئة السياسية والنفسية في البلد في اتجاهات إيجابية وجامعة.
وبعد هذه البادرة، ربما يتعين عقد مؤتمر وطني للنظر في الأسس الدستورية والسياسية والمؤسسية لطي الصفحة المؤلمة. سنوات المرحلة الانتقالية الخمس طويلة جداً، وقد يقتضي الأمر مؤتمراً سنوياً ينظر في مشكلات ما جرى خلال العام وما أنجز وما له أولوية. المصالحة الوطنية، وأولها الاعتراف بما جرى، ثم الاعتذار والتعهد بجبر الضرر، يمكنها أن تكون القضية الأكبر في أول مؤتمر سنوي. الوقت يضيق، لكن ليس هناك شيء يبث أجواء إيجابية في البلد أكثر من مبادرة السلطة إلى الاعتذار والعمل على إصلاح ما جرى والتعويض.
وهو ما من شأنه أن يعني قطيعة جذرية مع الأسدية، وعلى مستويين. أولهما الانتهاء من زمن العنف الهويتي الذي بدأت سوريا بالمعاناة المتكررة منه في الحقبة الأسدية، والذي بدا أن الأشهر المنقضية من الحكم الحالي استمرار له، مع تبدل بعض القاتلين وبعض المقتولين. والثاني هو الشجاعة في تغيير المسار والقيام بالانعطاف الإنقاذي الواجب.
كانت قضية المصالحة الوطنية قد أثيرت أيام ربيع دمشق (2000-2001) أثارها الراحل رياض الترك في محاضرة شهيرة في منتدى الأتاسي في آب 2001، وكانت في الأجواء طوال تلك الفترة. وما كان يسوغها وقتها يقارب ما يسوغها اليوم من أزمة ثقة وطنية ودرجات من العداوة والقطيعة المكبوتة بين سوريين، سارت على خطوط هويتية. ليس فقط لم يستجب للدعوة، وليس فقط لم يعالج أيا من الملفات المورثة عن مجازر وإعدامات وتعذيب عهد حافظ الأسد، بل إن رياض الترك نفسه (وكان سبعينياً وقتها) اعتقل بعد أيام من محاضرته.
بعد عشر سنوات تفجرت الثورة السورية، وأظهرت قطاعات واسعة من السوريين أنهم لم ينسوا أيام الأسى، وصبوا جام غضبهم على اسم حافظ الأسد وصوره وتماثيله. ولم يفكر النظام وقتها ولا في أي وقت بالتوقف ومحاولة القيام بانعطاف إنقاذي. وتاريخ سنوات ما بعد الثورة هو تاريخ مجازر إبادية ارتكبها الحكم الأسدي وشراشيره، وبعضها مجموعات إسلامية، بمن فيها جبهة النصرة التي كان أحمد الشرع، أبو محمد الجولاني سابقاً، قائداً لها، ويبذل منذ عام 2016 جهوداً للانعطاف عن ذلك الجذر.
لماذا يمكن أن يفترض أي كان أن ضحايا مجازر الساحل ومجازر السويداء سيفكرون ويتصرفون بطريقة مختلفة عن ضحايا مجازر عهد حافظ الأسد، ثم وريثه؟ لن يفعلوا قطعاً حين تواتي الفرصة. وهي ستواتي ذات يوم، فلو «دامت لغيرك ما وصلت لك»، على ما يقول المثل الشعبي السوري السديد. لكن يمكن تغيير البيئة السياسية السورية تغييراً كبيراً، يطال قواعدها وقوانينها وحتمياتها، إن عُمل الآن بشجاعة من أجل المصالحة الوطنية، فجرى التأسف للضحايا باسم الدولة والتزم بتعويضهم عن الخسائر وعمل من أجل سوريا جديدة يتساوى فيها السوريون حقوقياً وسياسياً.
واقع الأشهر العشرة المنقضية يقول إننا في العام الخامس والخمسين من دولة الحرب الأهلية، وليس في العام الأول من دولة السلم الوطني والمواطنة وحكم القانون. المصالحة الوطنية، وأولها الاعتراف ثم الاعتذار والتعويض، هو ما من شأنه أن يطوي الصفحة، ويجعل مما بعد 8 كانون الأول 2024 بداية كبيرة لسوريا، وليس نهاية عارضة لعهد من القتل وبداية لعهد آخر… من القتل.
كاتب سوري