محمد عبده ومدرسة التجديد الحضاري


 «لا جَرَم كان القَبس الروحي الذي ألقاه الشيخ محمد عبده في الأزهر، وفي غير الأزهر يشتعل رويْداً، وكانت بذور الإصلاح والحريّة الفكريّة، التي ألقاها بكلتا يديْه تنمو في كلّ ناحية… والآن وبعد مضي ثلاثين سنة إلا قليلاً على وفاة الشيخ، يشعر النّاس بأن له في النهضة المصريّة الحديثة أكبر الأثر، وتعود ذكراه حيّة يتناولها الدرس، ويعرض لها النقد ويُعنى بها الكُتّاب والمُفكّرون على اختلاف مذاهبهم».
جاءت تلك الكلمات ضمن مرثية ضافية سطّرها الشيخ مصطفى عبد الرازق (شيخ الأزهر الأسبق المُتوفى عام 1947والذي كان أحد روّاد مدرسة الشيخ محمد عبده) منذ نحو تسعين عاماً، في ذكرى رائد مدرسة التجديد والإصلاح الإسلامي الإمام محمد عبده، الذي حلّت الشهر الماضي ذكراه العشرين بعد المئة، فقد تُوفي الشيخ محمد عبده في 11 يوليو/تموز عام 1905، بعدما ترك أثراً كبيراً في تاريخ مصر الحديث، في مختلَف الجوانب الدينيّة، والفكريّة، والسياسيّة، فلم يقتصر عطاء محمد عبده على الجانب الشرعي وحسب، وإنّما اكتسب مكانته كمُجدّدٍ دينيٍ ومصلحٍ اجتماعيٍ أسّس مدرسة فكريّة للتجديد الحضاري، دعت إلى تجديد الفِكر الديني، والتحرّر من قيود التقليد والتعصّب المذهبي، كما دعت في الوقت نفسه إلى الإصلاح الاجتماعي والسياسي، وفق نهجٍ مُتدرّجٍ، وقد وصفه الأكاديمي والمُستشرق الأمريكي تشارلز آدمس بأنه كان يمتاز بكثير من صفات الزعامة، كما كان موفور النشاط لا يكلّ من العمل المتواصل، وأن عِلمه رفعه إلى مقام الصدارة بين علماء المسلمين في عصره، وأذاع شهرته في العالم الإسلامي، فقد أتقن جميع العلوم الإسلاميّة كالفلسفة والتوحيد وتفسير القرآن والفقه والحديث، واللافت أنه تمكّن من إتقان الفرنسيّة عندما كان في الرابعة والأربعين من عمره وكان يقول: «من لم يعرف لغة من لغات العِلم الأوروبيّة، لا يُعدّ عالماً في هذا العصر»، وطالب الشيخ بضرورة إصلاح التعليم الديني، وتأهيل العلماء والفقهاء ليكونوا مطّلعين على علوم الدين والعلوم الحديثة المطلوبة، كعلوم التاريخ، والاجتماع واللغات.

أعلى محمد عبده من شأن العقل، في تفسير القرآن وأحكام الشريعة وتعليلها عقليّاً، مُشدّداً على أن أحد مقاصد الشريعة إعمال العقل، ودعا إلى إطلاق الفِكر ورفض الجمود والتقليد، ورأى أن العلاقة بين العقل والدين علاقة تكامل لا علاقة تصارع، فالدين ضروري للعقل يُكمّله ويُقوّمه، كما رأى أن العِلم والدين لا يمكن أن يكون بينهما خصام أو نزاع، متى فُهِما على وجهيْهما السليميْن، وكان يرى ضرورة فهم الحضارة الأوروبيّة وجوهرها ومراحل تطوّرها التاريخي، دون الوقوع في وهدة التقليد الأعمى ومحاكاة الأوروبييّن في مظاهر مدنيّتهم كمظاهر الترف والأبهة، دون التفكّر في جوهر تلك المدنيّة وروحها.
اعتمد الشيخ محمد عبده نهجاً يقوم على أولويّة الإصلاح الديني، والإصلاح الاجتماعي بممارسة كلّ سُبل تربية وتعليم المجتمع وتأهيله، ليكون صالحاً للمطالبة بحقوقه من أجل الإصلاح بمدلوله الشامل، بامتداد مظلّته لكلّ الجوانب الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة، مع الابتعاد عن ممارسة العمل السياسي بصورة مباشرة. انتهَج الشيخ محمد عبده نهج الإصلاح بالأناة والتدرّج، بتقديم الإصلاح الاجتماعي من أجل الارتقاء بالمجتمع بعد تعليمه وتهذيبه أولاً، ليكون الإصلاح الاجتماعي هو الطريق المُمَهِّد للإصلاح السياسي، لكن المفارقة اللافتة، أن الشيخ خالف قناعاته عندما شارك في الثورة العرابيّة، واضطرّ إلى تأييدها باعتباره إصلاحيّاً لا ثوريّاً، رغم أنه كان غير راضٍ عن الثورة العسكريّة، ويبدو أنه قد انجرف مع موجة الحماسة الثوريّة التي اكتسحت الفضاء المصري حينذاك، بيْد أنه بعد فشل الثورة العرابيّة وما لاقاه الشيخ بعدها من نفيٍ وتشريدٍ، كان له أبلغ الأثر في عودته إلى طبيعته الإصلاحيّة، والابتعاد عن الانشغال بالسياسة، بل اتخاذ موقف سلبي منها.

ارتكزت رؤية مدرسة الشيخ محمد عبده على أن مشكلة العالم الإسلامي مشكلة (فكريّة – حضاريّة) في المقام الأوّل، قبل أن تكون مشكلة سياسيّة، فالتخلّف السياسي هو عَرَض لمرض، ألا وهو التخلّف الحضاري المتمثّل في انتشار الأميّة، والتخلّف العلمي، والمفاهيم الدينية الخاطئة، والخرافات والخزعبلات، إلى جانب إغفال دور العقل وسيادة التقليد وغياب التجديد عن التراث الفقهي، ورأت هذه المدرسة أن الإصلاح يبدأ من أسفل إلى أعلى، بضرورة العمل على آفات المجتمع وبتقديم الإصلاح الديني والفكري والاجتماعي، على الإصلاح السياسي، فالإصلاح الاجتماعي من شأنه تأسيس بُنى اجتماعيّة وفكريّة قادرة على تهيئة المجتمع للممارسة السياسيّة الديمقراطيّة بشكل سليم، بعدما يكتسب الخبرات اللازمة لإدارة شؤونه بصورة ذاتيّة، بعبارة أخرى رأت تلك المدرسة، أن الإصلاح المجتمعي هو الرافعة التي تمهّد الطريق أمام الإصلاح السياسي. في هذا السياق كتب الشيخ ذات مرّة، مستنكراً انكباب النُخَب على الاهتمام بالسياسة دون سواها: «إنّي لأعجب لجعل نبهاء المسلمين وجرائدهم، كلّ همّهم في السياسة، وإهمالهم أمر التربية الذي هو كلّ شيء وعليه كلّ شيء»، فقد كان الشيخ يرى أن المجتمع بحالته الحضاريّة المُزرية غير مُؤهَّل لممارسة العمل السياسي، وأن هناك مرحلة أساسيّة لا مناص منها تهدف إلى إعادة تأهيل المجتمع وتخليصه من آفاته بنشر العلوم والمعرفة، من أجل تجسير الفجوة الحضاريّة التي تفصله عن العالم المُتقدّم، فضلاً عن ضرورة بناء نُخبة على درجة رفيعة من جودة التكوين الأخلاقي والمعرفي، فكل الأمراض الاجتماعيّة ناتجة عن حالة الجمود والتخلّف، التي تقبع فيها المجتمعات في العالم الإسلامي، وفي هذا كتب الشيخ: «فإذا أردنا إبلاغ الأفغان، مثلاً، إلى درجة أمريكا فلا بدّ من قرون تبثّ فيها العلوم وتُهذَّب العقول، وكذلك الشهوات الخصوصيّة وتوسّع الأفكار الكليّة، حتى ينشأ في البلاد ما يُسمى بالرأي العمومي».

تعرّضت مقاربة الشيخ محمد عبده لحملات شعواء من دعاة المحافظة والتقليد، ودعاة الانسحاق والتغريب على السواء، فضلاً عن القطبييّن والمُتسلّفين، الذين رأوه نموذجاً صارخاً للتغريب، وأوسعوه قدحاً وتشنيعاً بصورة مُقذعة، فقد اتهمه الفريق الأوّل بالانهزاميّة أمام الغرب، ومهادنة الاحتلال الإنكليزي، بينما اتهمه الثاني بمحاولة تقديم طرح يحاول التوفيق بين الدين والحضارة الغربيّة، بصورة يشوبها التكلّف في تأويل أحكام الدين، ويصل أحياناً إلى درجة التلفيق بين الأحكام الشرعيّة ومعطيات الحياة في المجتمعات الغربيّة، وكانت ردود الشيخ على خصومه جديرة بالنظر والدراسة، فعلى سبيل المثال وقعت مناظرة فكريّة بالغة الأهميّة بين محمد عبده والكاتب اللبناني فرح أنطون عن ابن رشد وفلسفته، وقد وصفها البعض بأنها من أهمّ المناظرات الفلسفيّة في تاريخ مصر الحديث.
النقطة التي تستلفت الانتباه، أن الطرح الذي قدّمته مدرسة محمد عبده، قد تراجع وانحسر لأسباب عديدة، وظلّ مطموراً منزوياً طوال العقود الماضية، لم ينل حقّه من الذيوع والدراسة إلا لماماً، لكن التجارب الديمقراطيّة المُتعثّرة التي تمخّضت عن الربيع العربي، دفعت المُراقبين للبحث في أسباب تعثّرها وفشلها، ممّا أعاد الاعتبار إلى مدرسة الإمام محمد عبده، ودفعت الباحثين إلى إعادة النظر في رؤيتها، التي أثبتت الأيّام أنها كانت رؤية استشرافيّة صائبة إلى حدٍّ بعيدٍ، فقد استردّت مدرسة التجديد الحضاري اعتبارها، بعدما كشفت مرحلة ما بعد سقوط الأنظمة السلطويّة، عن حجم التجريف الكبير، والتخريب الهائل، الذي ضرب مساحات مجتمعيّة واسعة، وتجاوزها إلى قطاعات كبيرة من النُخَب، مخلّفاً حالة من الفراغ المدوّي، فعمليّة التحوّل الديمقراطي عمليّة مُعقّدة متعدّدة المراحل، تتجاوز مرحلة الانتخابات، ويستلزم إجراؤها وجود بنيّة أساسيّة من مؤسسّات مجتمعيّة قويّة فاعلة، تكون بمثابة الروافع التي تحمل الديمقراطيّة وتعمل على تطويرها وترسيخها، وهو ما أثبتت السنوات الماضية عدم وجوده بدرجة الحدّ الأدنى في مجتمعاتنا.

كاتب من مصر



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *