اغتنت السينما المصرية عبر تاريخها الطويل، الذي يمتد إلى أكثر من 125 عاماً، باستلهامها الأدب الروائي، ليصنع منه أكبر مخرجيها أفلاماً ذات مستوىً عال، وهنا نحن نطلّ على رواية» الحرام» للكاتب المصري الراحل يوسف إدريس، عبر تحويلها فيلماً للمخرج الراحل هنري بركات، سيناريو وحوار الكاتب الراحل سعد الدين وهبة. وحينما تتوفر في أيّ فيلم، هذه الأسماء الثلاثة الكبيرة في عالم الأدب والفن، فإن نسبة نجاحه مضمونة جداً، لروعة الأسلوب الإخراجي، بما فيه لغة تعبير متميزة، بتصوير رائع، حاكى الواقع المأساوي الذي زخرت به الثيمات المتوالية لرواية إدريس، فضلاً عن الأداء المذهل للفنانة الراحلة فاتن حمامة. وبذا حقّق الترتيب رقم (5) في قائمة أفضل 100 فيلم، في تاريخ السينما المصرية.
قرية قابعة في جوف النسيان
قبل أن يبدأ «تايتل» الفيلم، الذي مرّت 60 عاماً، على عرضه، فقد أنتج عام 1965، يظهر صوت الممثل القدير حسين رياض، كأنه يسرد مقدمة الرواية عن قرية مصرية هي واحدة من آلاف القرى في دلتا النيل، قرية قابعة في جوف النسيان، حيث ناسها تحت خط الفقر بكثير، بيوتها مُشيّدة من جدران من الطين وأسقف من القش، مليئة بأناس يعملون كثيراً ويأكلون قليلاً، ومع العوز والجوع، هناك المرض. يرافق الصوت الرخيم لحسين رياض انتقال الكاميرا، من بانوراما كبيرة لقرى الدلتا، إلى تصوير الناس، وهم في جحورهم الخاوية، إلاّ من البؤس والحرمان. رياض يعلن أن هذه القرية تقع وسط الدلتا، ربما تُسمّى كفر عبد الواحد، أو عزبة الوسيّة، بيت فاضل، فيها تجري أحداث القصة في أحد أيام عام 1950.
ومع التايتل، نشاهد فاتحة أحداث الفيلم، حيث يصل المأمور فكري أفندي (زكي رستم) ويُستقبل استقبالاً حافلاً من أهالي القرية، الذين يتنقلون للعمل من ريف إلى آخر، ويُسمّون «التراحيل». أما الجهة المسؤولة عنهم، في المكان الذي يحلّون فيه، فتدعى» التفتيش». ويدخل الكبار دارة العمدة، ليخرج بعدها الأخير منادياً التراحيل، بالتهيّؤ باكراً للعمل، مع تحديد مقدار الأجور اليومية البائسة، التي تُدفع لهم كلّ أسبوعين.
تتفجّر عقدة الفيلم، بعثور الغفير عبد المطلب (حسن مصطفى) على جثة لقيط تبدو عليه آثار الخنق، وبمعرفة القريبين من الغفير للحكاية، تنتشر في جميع أنحاء القرية. فكري أفندي يبدأ البحث عن الفاعلة، مع اتّهامه لنساء التراحيل بذلك، وكذلك مرافقوه، أيّدوه بذلك لإبعاد الشبهات عن نساء عزبة التفتيش، التي استضافت التراحيل. وطلب من المشرف على عملهم الريّس عرفة، بأن يمرّ الجميع أمامه، فكان يركّز على ملامح النساء، ومن ثمّ شاور من هم تحت إدارته مسيحة الباش كاتب، والكاتب أحمد أفندي، وخرجوا بالاتّهام نفسه، وعلى إحضار النيابة للبتّ في ذلك. وجاء العسكر ومعهم أولو الأمر من نيابة وادّعاء عام، وأكلوا وشربوا، وحمّلوا بأقفاص الدجاج، ومن ثم قُيّدت القضية ضد مجهول. إلاّ أن الشكوك طالت أيضاً من أهل التفتيش؛ فكري أفندي يستجوب ابنه صفوت صائد اليمام عاشق لندة بنت مسيحة الباش كاتب، إن كان هو الفاعل. الباش كاتب نفسه، راودته الشكوك بشأن ابنته لندة، التي كانت مريضة، فصعد يتفقدها، وهي تشكو من مغص، وبدأ يجسّ بطنها.
وابتدأ الفلاحون في جلساتهم الليلية، تأخذهم النميمة على ذكر نساء التفتيش، ومنهم زكية زوجة ساعي البريد محبوب، حيث يقتعد في بيتها رجل تدّعي بأنّه قريب لها من طنطا، ويذكرون دميان وملازمته أم لندة، التي يظهر أنّها تراوده فيهرب، ومن هم أيضاً الكاتب أحمد أفندي الأعزب، حيث النساء الداخلات إلى بيته أكثر من الخارجات.. وفي الآخر.. يدمدمون بأن المستور سوف يظهر لا محالة.
فكري أفندي المهموم بمصيره كمأمور، القلق بشأن محصول القطن ونظافته مما يُسمّى» اللطع» وخلوّه من الدود، وإلحاحه على متابعة عمل التراحيل، يعثر على صاحبة اللقيط عزيزة (فاتن حمامة)، فقد جعلها الريّس عرفة، تستريح تحت الظليلة، وبعد استجواب فكري أفندي للأول، ووقوفه على الحالة الحرجة لعزيزة، رأف بها هو الآخر، وأمر بأن تبقى أجرتها محسوبة، ونُقلت إلى مكان سكن التراحيل، وهنا انتشر الخبر في جميع أرجاء القرية.
عزيزة والبطاطا
يعود المخرج بـ»الفلاش باك» إلى قصة عزيزة وزوجها عبد الله (عبد الله غيث) بدءاً من يوم زواجهما، ومن ثمّ كدحهما، وهو بصفة فلاح أجير، يعمل يوماً، ويقعد عشرة أيام. وينادي المنادي ليعلن عن الحاجة إلى التراحيل، ويهبّ الزوجان، ليعودا بعد انقضاء موسم العمل، وقد أصبح عندهما من النقود ما يقيم أودهم، ومن ثم تتقهقر أحوال العائلة، فهي نموذج صارخ للشقاء الإنساني في قرى مصر عام 1950. التقهقر يبدأ من مرض عبد الله، وإصابته بالبلهارزيا، وهنا بدأت عزيزة تصبح المعيل الرئيس. كانت البلوى، حينما تمنّى الزوج على عزيزة أن تجلب له قطعاً من البطاطا، وتسرع لأجل ذلك، ومعها الفأس، لتحفر الأرض المزروعة بالبطاطا، يزجرها صاحب الأرض، ومن ثم يقرر مساعدتها في الحصول على بعض القطع، وفي طريق عودتها تسقط في حفرة، وهنا ركب الشيطان صاحب الأرض، ليعتدي عليها.
وعندما يبدأ موسم جديد للتراحيل، يُمنع عبد الله من الالتحاق بهم، وراحت عزيزة، وهي حامل، وهناك حدث الطلق في إحدى الليالي، واتّخذت مكاناً عند شجرة، بعيدة نسبيّاً عن مقيل التراحيل، وأنجبت لوحدها بصعوبة وصرخ الوليد، وهنا وضعت يداه على فمه، لإسكاته، لكنّها راحت في إغفاءة، لتجد الوليد ميتاً، فانتفضت، وذهبت إلى ظليلتها، وفي الصباح أحسّت بأنّها ارتاحت من عبء ثقيل، وأصبحت طبيعية كسائر النساء، وبعد يومين لزمتها حمى النفاس، إلى أن انكشف أمرها.
أصبحت محطّ أنظار الجميع. هنا تخطّت المسألة كونها قاتلة لقيط، إلى أنها حالة امرأة تتعذّب، وتصرخ، وتنهض إلى النهر لتنتحر، ويسرع كثيرون لإنقاذها. هنا يتّحد الجميع في النظر إليها كحالة إنسانية، لا بدّ أنّ ظروفاً لا يعلمها إلاّ الله، كانت السبب في ما أقدمت عليه هذا المرأة المُعذبة. في يومها الأخير، تسرع إلى مكان ولادتها تحت الشجرة، وتموت هناك. ويصيب الوجوم كلّ التراحيل، وعزبة التفتيش أيضاً، لتشير نهاية الفيلم إلى ثنائية الحياة والموت. وهنا يعود صوت الممثل حسين رياض لينبئ بأن الشجرة هذه أصبحت مزاراً للنساء في سعيهن للحمل والانجاب، بالحلال وليس في الحرام.
أشهر روايات يوسف إدريس
يمكن القول، من خلال قراءاتنا لرواياتٍ عديدة ومشاهدتها سينمائياً، ليس هناك فيلم يلتزم بكامل تفاصيل الرواية. عيون كاتب السيناريو والحوار والمخرج، تلتقط، لأجل الاختزال والتكثيف، كلّ ما يتعلق بعقدة الرواية وتطوراتها. وفي هذه الرواية، التي حصدت شهرة عالمية، عبر ترجمتها إلى العديد من اللغات، كانت خطيئة عزيزة وسيرة حياتها منذ زواجها إلى مماتها، هي العقدة الرئيسية، ولكنّ خاتمة الرواية مفارقة لنهاية الفيلم، فالأولى تضيف تطوّرات ما بعد موت عزيزة، حيث تكللت جهود فكري أفندي بالنجاح، وهُزمت دودة القطن، وعاد التراحيل إلى قريتهم، ومن ثم قدموا في العام التالي، وزالت الحواجز بين فلاحي التفتيش والتراحيل، إلى الحدّ الذي أصبح التزاوج بينهم مُتاحاً. ولم يعد فكري أفندي مأموراً، فالخواجة زغيب باع التفتيش للشركة البلجيكية، التي عيّنت ماموراً خواجة أيضاً، لكنّ الشركة والمأمور لم يدوما طويلاً، فقد باعت الشركة الأرض لأحمدي باشا، فقلب نظام المزارعة إلى نظام الإيجار على بياض، ليضع على الورق ما يشاء من شروط.
وما لم يذكره الفيلم أيضاَ قصة هروب لندة، واستقالة كاتب التفتيش أحمد أفندي، ليجتمع الاثنان بعيداً عن التفتيش ويتزوجا. أما الأحمدي باشا الإقطاعي الجديد، فقد نشبت خلافات بينه وبين الفلاحين، وما تبعها من محاكم ومحضرين وحجوزات إلى أن قامت الثورة وصدر قانون الإصلاح الزراعي، فباع الأحمدي باشا الأرض للفلاحين. باختصار.. انتهت الهيكلية الإدارية للنظام الإقطاعي بالاستغناء عن جميع الموظفين و»الأسطوات والأنفار» وغادر بعضهم التفتيش، وانقلب آخرون الى فلاحين.
أراد إدريس في هذه الرواية، تعرية النظام الاقطاعي السائد في مصر، ما قبل ثورة يوليو/تموز 1952. فما تسمّى «الأبعادية- التفتيش– الدايرة» وجميع المساحات الخضر، التي تقدّر مساحتها بنحو ألفي فدان، والاصطبلات والمواشي والبيوت، كلها تحت يد رجل إقطاعي واحد، الخواجة زغيب الكبير. وهنا هو وأعوانه يتحكّمون بأشقى خلق الله وهم التراحيل. وبعد انكشاف حادثة اللقيط، أزيح الستار عن نفاق رجال التفتيش ونسائهم، بأنّهم مجتمع الفضيلة، والتراحيل مجتمع الرذيلة. حنوّ فكري أفندي على عزيزة، جرّ وراءه تقاربا بين مجتمع التفتيش ومجتمع التراحيل، تكشّف للأول، بأنّ الثاني مثلهم، وأنّ فقرهم وأمراضهم جعلتهم يكدحون من أجل لقمة العيش في التراحيل. ومن هنا أزيلت قناعات عديدة، فالرذيلة حدثت بسبب الظلم وانعدام العدالة الاجتماعية، ما أدّى بالكادحة عزيزة إلى الخطيئة. ربما حدث ذلك بسبب عدم مقاومة المنتهك لها، فهي كبقية النساء لها غريزتها، تلك التي تعد جزءاً لا يتجزّأ من تكوين أيّ إنسان رجلاً أم امرأة. التعاطف الجمعي مع عزيزة، يكشف في طياته أن كلّ واحد يطمئن إلى أن نار الرذيلة لن تحرق بيته وأهله، وهذا يفضح الأنانية التي تضرّ المجتمع ولا تنفعه. وكأن إدريس غاص كثيراً في نفوس شخصياته، لينتج بذلك رواية عميقة المضامين عن النفس البشرية، وما يفعله ظلم الإقطاع والفقر والمرض في حياة فقراء الهامش.
وهنا باتت حادثة عزيزة، كما الفاصل بين مرحلتين، مرحلة النظام الإقطاعي، الذي جرّ المجتمع الريفي المصري إلى العوز والحرمان والكبت، وما سبب ذلك من وقوع حادثة عزيزة، ومرحلة الثورة وما أحدثت من تغييرات جعلت الطبقات الكادحة أحسن نسبياً. لكن تبقى الرذيلة والفضيلة سمتين أخلاقيتين نسبيتين، حسب المنظومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإيمان الديني لكلّ دولة من دول العالم، فما يُعتبر رذيلة في دول ملتزمة دينياً، يُعدّ أمراً طبيعيا في دول أخرى كما الماء والهواء.
* كاتب عراقي