«لم يُعثر عليه».. من رحلة البحث عن المدينة إلى البحث عن أصحابها


القاهرة ــ «القدس العربي» : اقترن في الثقافة العربية اسم جيمس جويس (1882 ــ 1941) وعمله المتفرد (عوليس) باسم المترجم المصري طه محمود طه (1929ــ 2002)، الذي قضى في ترجمة الرواية ما يقارب الربع قرن، بل أعاد الترجمة بعد اكتشاف بعض الأخطاء في النسخة الإنكليزية المترجَم عنها، وكذا كتابة (موسوعة جيمس جويس) التي تعد كتاباً شارحاً ومفسراً للرواية وعالم جويس المعقد. إلا أن هناك مفارقة غير مقصودة بين الرجلين في ثقافة كل منهما، وهي الإهمال المُتَعمّد، بغض النظر عما اكتسبته رواية جويس من مكانة في الأدب الغربي، إلا أنها مقصورة على الصفوة من قرّاء الأدب، ولكن الأمر يزداد سوءا عندما يتعلق بمترجم الرواية، وما عاناه من مناخ الأدب المصري وحُرّاسه.
عن بعض من هذا المناخ والكثير من المواقف التي ترسم خريطة وحالة الثقافة المصرية، يأتي كتاب «لم يُعثر عليه».. (وقائع تمشية بجوار عوليس .. بحثاً عن دكتور طه) للكاتب محمد فرج، الذي أقيمت بمناسبة إصداره ندوة في (مكتبة ديوان في الزمالك)، قدمها وأدارها الكاتب والصحافي محمد شعير.
الرحلة
بدأ محمد شعير بتقديم الندوة قائلاً.. إن الكتاب يبدو كرحلة للبحث عن تلقي جميس جويس في الثقافة العربية، ورحلة أخرى بحثاً عن مترجم «عوليس» طه محمود طه وأعماله المفقودة، الذي قام بترجمة عوليس وكتب موسوعة كاملة (موسوعة جيمس جويس)، كما ترجم «فينجانز ويك»، وهي واحدة من أهم الروايات وأصعبها في الثقافة الإنكليزية، إلا أن هذه الترجمة اختفت تماماً، ومن حادث الاختفاء هذا يبدأ المؤلف محمد فرج رحلة البحث عن هذا العمل المفقود. من ناحية أخرى رغم ما يبدو أن الكتاب عن جيمس جويس وعن طه محمود طه، إلا أنه أعمق بكثير، جويس مجرد وسيلة يتم من خلاله الحديث عن الكثير من القضايا.. مدينة القاهرة وتحولاتها المتسارعة، ثورة 25 يناير/كانون الثاني وما جرى لها، وضع أو مأساة الأرشيف المصري، وكذلك سيرة الكاتب الذاتية. ويضيف شعير أن المؤلف من البداية ينفي عن عمله فكرة الرحلة المعتادة والغموض، أو السر الذي سينكشف عند نهايتها، بل يقرر ذلك من العنوان.. «لم يُعثر عليه» فالأثر والمعنى في تفاصيل الرحلة نفسها، دون نتائجها. كذلك اعتمد المؤلف تقنية (التمشية) وهي تقنية فلسفية، وهو ما فعله فالتر بنيامين، على سبيل المثال عند حديثه عن بودلير ومدينة باريس، في كتاب «شارل بودلير شاعر غنائي في حقبة الرأسمالية» ومنه نصل إلى فكرة التصنيف، فالكاتب يستفيد من تقنية السرد الروائي والاستقصاء الصحافي، وأدوات المؤرخين في البحث، والسرد الشخصي.


مجرد أسئلة
يقول المؤلف.. بدأت العمل دون الانشغال بإيجاد إجابات، بل أسئلة تولد عنها الكثير من الأسئلة المتفرعة، ودن معرفة كيفية الإجابة عليها.. بدأت بطه محمود طه، والأرشيف ومدى وجدوى دوره الحقيقي، حتى لو كان مشكوكاً فيه، إضافة إلى حكاية طه وعلاقته بالنفي من جانب جماعات اليسار المصري وصراعاتها، خارجية كانت أو بينها وبين نفسها. ومنه كانت فكرة وجود جويس وتأثيره في الثقافة العربية، بداية من أول محاولة لترجمة «عوليس»، التي قام بها لطفي جمعة في الأربعينيات، ثم ترجمة طه محمود طه، ثم ترجمة صلاح نيازي. كل هذه أسئلة تواترت خلال الكتابة.
اللحظة الفارقة
ويُشير فرج إلى أن هناك لحظة آنية هي التي تخلق التساؤل حول واقعة، أو حدث وقع في الماضي، فالأمر لا يأتي اعتباطاً، حتى إن كان عفوياً. فما نعيشه هو ما يجعل من لحظة ماضية الكثير من الأهمية، فلا توجد كتابة لها علاقة بالتاريخ ستنقل ذلك التاريخ كما هو، بل هي كتابة منشغلة باللحظة الحالية، والأخيرة تضيء الكثير من المعتم في الحدث التاريخي، وهو ما يكشف بدوره مدى علاقة السياسي بالثقافي، من وجود أرشيف داخل مؤسسة رسمية.. كأرشيف دار الأخبار، دار الهلال، ومؤسسة الأهرام.
كاتب واحد ومترجم وحيد
وأشار محمد شعير إلى أن جويس تم استقبال عمله «عوليس» بفتور في الثقافة الإنكليزية نفسها، والغربية بالتبعية، وكذا ثقافة الشرق وأمريكا اللاتينية، ولكن هل الفتور المصري في استقبال ترجمته يعود لأن ناشر ترجمة طه محمود كان من المؤيدين للتطبيع مع إسرائيل؟ فأوضح فرج عدم الإجابة المؤكدة لهذا الأمر، إلا أن الأكيد هو مدى صعوبة قراءة وفهم ما كتبه جويس، كما أن في كل ثقافة من هذه الثقافات ــ بخلاف الإنكليزية ــ نجد مُترجماً وهب سنوات عمره لترجمة «عوليس»، فكما فعل طه محمود طه في الثقافة العربية، نجد مترجماً كردياً ظل 27 سنة حتى أكمل ترجمة «عوليس» للكردية، والحالة نفسها في إيطاليا وفرنسا.
مشروع طه
ويضيف فرج أن طه محمود طه كان لديه مشروعه في الترجمة، بداية من ترجمة وتأليف بعض الكتب منذ الستينيات عن الأدب الإنكليزي، وتوقفه عند «فينجانز ويك»، ثم ترجمته لفصل من «عوليس» ثم فصل آخر، ثم عكوفه على كتابة وترجمة «موسوعة جويس»، وهي مدخل لحياة جويس والتعريف بأعماله المختلفة، وترجمة مقاطع من هذه الأعمال ودراستها، والجزء الأكبر من الكتاب عن عوليس وتتبعها فصلاً فصلاً، وهي موسوعة تتعدى الـ 600 صفحة. وهذه الكتابات ليست غريبة على جويس، وقد كانت تصدر مؤلفات تشرح أعماله وهو لم يزل حياً، وهو ما استمر بعد وفاته بالطبع، وحتى الآن. ولكن اللافت للنظر أن طه كمترجم وأكاديمي لم يكن اسماً غريباً في الوسط الثقافي المصري، لكن لماذا ينشر في دار خاصة وليست حكومية، بل ويتحمل تكلفة النشر! ناهيك عن اكتشاف أخطاء في النسخة المتاحة التي ترجم عنها طه الرواية، فيُعيد الترجمة مرّة أخرى في سبع سنوات، حتى تخرج الطبعة الثانية من الرواية بعد تلافي أخطاء الطبعة الأولى! ثم ترجمته الكاملة لرواية «فينجانز ويك»، التي أكد البعض أنه رأى المخطوطة في دار شرقيات للنشر، إلا أن هذه المخطوطة اختفت لأكثر من عشرين عاما، لتعاود الظهور مرّة أخرى، ويُعلن أنها ستنشر قريباً!
خسارة
ونختتم ببعض العبارات التي وجهها الكاتب إلى طه محمود طه في نهاية الكتاب، وكأنها رسالة خاصة طالما تأجلت.. «إحدى العبارات التي سمعتها أكثر من مرّة خلال مشيي بجوارك.. ليس طه وحده الذي لم ينل حقه من التقدير، هناك الكثيرون غيره… المشكلة في هذا الكلام أنه لا يقلل من وطأة خسارتنا، بل يُثقلها، نحن الذين نخسر عندما يفوتنا الجمال.. أعرف أنك استمتعت بسنين صحبتك لجويس، رغم المرارة أحياناً إلا أنك لم تتوقف أليس كذلك؟ فمن الخاسر إذن؟».



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *