أعادت وفاة الممثل الأمريكي روبرت ريدفورد إلى الذاكرة أفلامه الشهيرة مثل «جميع رجال الرئيس» و»بوتش كاسيدي وسندانس كد». ولكن أغربها قد يكون «ثلاثة أيام من الكوندور» Three Days of the Condor الذي عرض عام 1975، ويعد مثالا نادرا لكيفية تصوير السينما لعالم المخابرات، كما أنه مثال للعوامل التي تؤثر على قصة وإخراج الأفلام. شارك روبرت ريدفورد في هذا الفيلم الممثلة فَي دَنَوَي، وأخرجه سدني بولاك.
تدور أحداث الفيلم في أواسط السبعينيات من القرن الماضي، حيث يواصل موظفو المخابرات الأمريكية عملهم في أحد مقراتها السرية في نيويورك. وكانت مهمتهم متابعة كل ما ينشر في العالم، وإبلاغ قيادتهم، إن وجدوا شيئا قد يكون مهما للحكومة الأمريكية. وكان أحدهم الوسيم «جو ترنر» (روبرت ريدفورد) الذي كان الأكثر مرحا بين الجميع وجاذبية بالنسبة للفتيات. ويفاجأ موظفو المخابرات الأمريكية باقتحام مجموعة مسلحة للمبنى وقتلهم جميعا بسرعة. ولم تعلم عصابة القتلة أن «جو ترنر» كان خارج المبنى بسبب فترة الغداء، ولذلك يصاب «جو ترنر» بصدمة عند عودته إلى المبنى فيهرب خارجا من المبنى إلى أول هاتف عمومي في الشارع، للاتصال بمركز المخابرات في نيويورك وإبلاغهم بما حدث.
تتواصل الأحداث حيث يفقد «جو ترنر» الثقة بكل من حوله وحتى رجال المخابرات، حيث يُتّهَم بقتل أحد أصدقائه في المخابرات أثناء لقاء جمعه بذلك الصديق ومدير القسم المسؤول عن «جو ترنر» بينما الحقيقة أن مدير القسم كان القاتل الحقيقي، ثم يُقتل مدير القسم نفسه. ويستنتج «جو» أن هنالك منظمة سرية داخل المخابرات الأمريكية تعمل لصالح أهداف خاصة بها. ولم يكن على خطأ، أذ يجتمع رئيس عصابة القتلة بأحد كبار مديري المخابرات، حيث يكلفه المدير بقتل «جو»، إلا أن جميع المحاولات تفشل. ويقوم «جو» باختطاف فتاة تدعى «كاثي» كي يستعمل شقتها وسيارتها. وسرعان ما تغرم هذه الفتاة به وتساعده في استدراج أحد كبار المديرين في المخابرات الأمريكية يدعى «هيجنز» الذي يبدي تعاطفا معه، ويؤكد له أن الموضوع قيد التحقيق داخل المخابرات. ويستنتج «جو» أن هدف تلك المنظمة هو النفط، دون أن يستطيع أن يحدد أكثر من هذا. ويقوم «جو» بتحقيقه الخاص، حيث يكتشف مكان رئيس عصابة الاغتيالات، وأنه سبق وأن عمل لصالح المخابرات، ولكنه ليس عضوا فيها، بل لصالح كل من يدفع، كما عرف اسم المدير في المخابرات، الذي أمره بالاغتيال، فيبلغ المدير «هيجنز» بهذه المعلومات. وصدم «هيجنز» بهذه المعلومات لأن ذلك المدير كان جالسا إلى جانبه عندما تلقى اتصال «جو». ويقتحم «جو» منزل ذلك المدير، إلا أن رئيس عصابة القتلة يفاجئ الاثنين ويقتل ذلك المدير بطريقة تبدو وكأنها انتحار. ويكتشف «جو» أن هذا القاتل الذي كان يعمل لدى المدير القتيل قد عاد للعمل لدى المخابرات، التي أمرته بقتل ذلك المدير. ويبلغه القاتل بأنه ليس الشخص المستهدف من قبل المخابرات، ولكنها ستغتاله في المستقبل. ولذلك اقترح عليه الذهاب إلى أوروبا وحتى العمل معه كقاتل، إلا أن «جو» يرفض. ويتعاطف القاتل معه، فيعطيه مسدسا للدفاع عن نفسه ويوصله بالسيارة إلى محطة القطار. وفي نهاية المطاف يجتمع «جو» بالمدير «هيجنز» الذي يخبره بأن المدير القتيل كان يحاول تنفيذ خطة ذكية كانت متداولة داخل المخابرات الأمريكية، م دون أن توافق الإدارة العليا على ذلك، ومن دون علمها، كما أخبر «جو» أن الأمر قد انتهى. ولكن «جو» يفاجئه بإخباره أنه قد أرسل كل المعلومات حول هذه الأزمة إلى إحدى أشهر صحف الولايات المتحدة الأمريكية، مما يغضب المدير «هيجنز» الذي يخبره أن عمله كان خطأ، وأنه بذلك يصبح وحيدا ومن الخطأ أن يكون متأكدا، أن الصحيفة ستنشر ما أرسله. وتنتهي بهذا أحداث الفيلم.
يعد الفيلم أحد أشهر أفلام الجاسوسية في تاريخ السينما الأمريكية، وأكثرها إمتاعا، فالإثارة تبدأ من اللحظة الأولى، بسبب الإخراج البارع وأداء الممثلين جميعا. وقصة الفيلم مأخوذة من رواية شهيرة نشرت عام 1974 بعنوان «ستة أيام من الكوندور». والكوندور نوع من النسور، وقد استعملت هذه الكلمة في الفيلم، لأنها كلمة السر التي استعملها «جو» في اتصاله بالمخابرات الأمريكية. أما الستة أيام، فتشير إلى الفترة التي استغرقتها أحداث الفيلم. وتطرق الفيلم إلى موضوع جديد نسبيا في أدب الجاسوسية، حيث لم يكن عن محاربة جواسيس أجانب، بل عن موظفين داخل جهاز المخابرات يستخدمون إمكانيات الجهاز لتنفيذ خطط خاصة بهم. ولكن الفيلم كان بعيدا عن عالم المخابرات، وقريبا من عالم عصابات المافيا، فتفاصيل الرواية والفيلم ناقضت منطق عالم المخابرات، فجهاز المخابرات في الحقيقة مؤسسة حكومية تتبع قوانين صارمة، إلا أن إمكانياتها وصلاحياتها هائلة، وتختلف جوهريا عن عالم عصابات المافيا. ولذلك، فإن جهاز المخابرات لا يغتال أحد مديريه عندما يخالف القانون، بل يلقي القبض عليه ويعاقبه، على عكس عصابات المافيا التي قد تقوم باغتيال أحد أفرادها في حالة قيامه بعمل من دون معرفتها. وفشل الفيلم في توضيح العلاقة بين مقتل سبعة من موظفي المخابرات الأمريكية، ولماذا يأمر ذلك المدير المخالف بقتل جميع العاملين في ذلك القسم بدلا من قتل «جو» فحسب، ولماذا لم تشك قيادة المخابرات في كون «جو» ضليعا في هذه العملية؟ إنها أسئلة مهمة. وفشل الفيلم أيضا في إظهار رد فعل مقنع من قبل السلطات الأمريكية تجاه مقتل هؤلاء السبعة وداخل الولايات المتحدة الأمريكية، لأن حادثا من هذا النوع، إن حدث في الواقع، سيسبب رد فعل فوري وشامل من قبل السلطات، وعلى جميع المستويات، ولذلك، فمن المستحيل أن تتجرأ عصابة من القتلة المحترفين للقيام بهذه العملية. ومن الواضح أن مؤلف قصة الفيلم كان يحاول إبهار المشاهد منذ المشهد الأول، وهي فكرة جميلة، ولكنه خالف المنطق. ولم يكن الفيلم موفقا عندما اكتشف «جو» هوية القتلة ومكان زعيمهم وكأن إمكانياته أكبر من إمكانيات المخابرات الأمريكية التي تعد الأفضل والأقوى في مجالها في العالم. وتحول «جو» من شخص مختص بقراءة الكتب إلى مهندس للاتصالات وبارع في الرماية بالمسدس بشكل أفضل من أي راعي بقر في فيلم هوليوودي. وعلى الرغم من محاولة الفيلم تعليل ذلك ألا أنها كانت ساذجة جدا.
كان من المضحك أن تتفق المخابرات الأمريكية في الفيلم مع العصابة التي قتلت سبعة من أفرادها، لأن هذا في الحقيقة مستحيل حيث تقوم المخابرات في هذه الحالة بالقبض على أفراد العصابة ومعاقبتهم بشدة. ومن المفارقات أن زعيم العصابة (الممثل الدنماركي ماكس فون سيدوف) ظهر وكأنه فيلسوف، حيث يصف عمله وكأنه يصف عمل أستاذ جامعي. وكان تحذير زعيم العصابة لـ»جو» أن المخابرات الأمريكية ستغتاله في نهاية المطاف غير معقول، فلم يكن هنالك أي سبب للمخابرات الأمريكية لألحاق الأذى به ولم يكن لهذا التحذير أي داع سوى زيادة الإثارة في الفيلم. ومن الجدير بالذكر أن فكرة هذا التحذير مسروقة من رواية جورج أورويل الشهيرة 1984. وكان زعيم العصابة أوروبيا وربما ألمانيا، أي ليس أمريكيا، وقد يكون سبب ذلك التركيز على كونه من خارج منظومة المخابرات الأمريكية. وكانت جميع محاولات اغتيال «جو ترنر» غبية للغاية بشكل مثير للدهشة، حيث كان من الممكن اغتياله بسهولة، لاسيما تلك المحاولة في شقة الفتاة التي اختطفها، حيث أدت لقتال غير مقنع.
قد تكون إحدى مشاكل الفيلم الممثل «روبرت ريدفورد نفسه، إذ اشترك في إعادة صياغة قصة الفيلم وتحول «جو ترنر» إلى زير نساء أسطوري، حيث كانت الفتيات تغرمن به أينما ذهب، فمثلا يختطف فتاة شابة (فَي دنوي) وسرعان ما تقع في غرامه بشكل غير منطقي، حتى إنها تساعده في استدراج «هيغنز»، المدير في المخابرات، وتحاول إنقاذ «جو» أثناء تعرضه لمحاولة اغتيال في شقتها، وكان كل هذا غير معقول، بالإضافة إلى ذلك، كان لدى «جو ترنر» عشيقة في عمله، قتلت ضمن الضحايا السبع، وكانت زوجة صديقه عشيقة سابقة له ما تزال تكن مشاعر خاصة نحوه، أي أن الشخصية الرئيسية تم تغييرها حسب المظهر الذي أراده «روبرت ريدفورد»، لإرضاء غروره وليس كما ظهرت الشخصية في الرواية الأصلية التي كانت أكثر واقعية، إذ لم تكن هنالك أي علاقات غرامية، كما أنه من غير المعقول أن يفكر شخص في كامل قواه العقلية بالنساء وهو مطارد من قبل عصابة من القتلة المخيفين والمخابرات الأمريكية. وكانت مشاهد ركضه في الفيلم مثيرة للسخرية، إذ كانت محاولة من الممثل لإظهار لياقته البدنية. وليس هذا جديدا حيث كان يركض في عدة أفلام له في تلك الفترة بشكل غير ضروري مثل فيلم «الخدعة» The Sting مع بول نيومان. وبدا روبرت ريدفورد وكأنه عارض أزياء ونحيف بشكل غير عادي، كما لم تتأثر تسريحة شعره المعقدة في مشاهد القتال والمطاردة، فالممثل كان حريصا على أن يبدو بكامل وسامته طوال الفيلم، حتى إذا كان ذلك مناقضا للمنطق. ومن الجدير بالذكر أن روبرت ريدفورد كان من أكثر الممثلين اهتماما بشكلهم وملابسهم، فعلى سبيل المثال قامت إحدى أشهر دور الأزياء العالمية بتزويده بالملابس لفيلم «غاتسبي العظيم».
كل هذا يعني أن المخرج والشركة المنتجة للفيلم سمحا للممثل روبرت ريدفورد بتغيير القصة على هواه، لإرضاء غروره، على الرغم من أن الدور في الحقيقة لممثل أصغر منه سنا بحوالي عشر سنوات، حيث كان في التاسعة والثلاثين عندما عرض الفيلم. وكان هذا الممثل في تلك الفترة من أشهر ممثلي السينما العالمية، كما كان المخرج من أصدقائه، حيث اشتركا في ستة أفلام. ومع ذلك، فإن نجم الفيلم الحقيقي كان المخرج سدني بولاك، الذي استطاع، على الرغم من جميع العقبات، إخراج فيلم جدير بالمشاهدة.
سيجد البعض تفاصيل الفيلم مألوفة نوعا ما. والسبب أن مسلسلا تلفزيونيا قصيرا اقتبس منه عام 1988 بعنوان «هوية بورن» The Bourne Identity من تمثيل ريتشارد تشمبرلين وجاكلين سميث، ثم أعيد إنتاج هذا المسلسل على شكل فيلم سينمائي بعد تغيير بعض التفاصيل عام 2002، ومثله مات ديمن. ونال هذا الفيلم نجاحا هائلا، فانتجت له أجزاء لاحقة. وأخيرا كان الفيلم دعاية تجارية لبضع شركات، لاسيما بعض أشهر الصحف الأمريكية.
زيد خلدون جميل
باحث ومؤرخ من العراق