د. دافيد جوبرين
وفقًا للملحق العسكري لمعاهدة السلام بين إسرائيل ومصر، اتفقت الدولتان على إقامة منطقة عازلة منزوعة السلاح في شبه جزيرة سيناء. القيود المفروضة على مصر في المناطق A وB وC كانت واسعة وصارمة، بينما كانت القيود المفروضة على إسرائيل في المنطقة D محدودة، نظرًا لصغر مساحة المنطقة نسبيًا.
إجراءات نزع السلاح هذه أُقرت بعد مفاوضات طويلة ومرهقة بين الدولتين في مؤتمر كامب ديفيد، وكان هدفها تقليل خطر تجدد المواجهة العسكرية بين إسرائيل ومصر. المستشار القانوني لوزارة الخارجية في مؤتمر كامب ديفيد، الدكتور مئير روزن، الذي وصفه إلياكيم روبينشتاين بـ”حارس الختم”، حدّثني عن النقاشات الحادة التي جرت مع مصر في المؤتمر حول هذا الموضوع، وعن إصراره على نزع السلاح في سيناء من القوات المصرية. روزن شدّد على أهمية النزع الأمني في ضوء تنازل إسرائيل عن عمقها الاستراتيجي، واعتبر ذلك أحد أهم إنجازات إسرائيل في معاهدة السلام.
أما مصر، فقد رأت دائمًا أن القيود التي نصّ عليها الملحق الأمني في المعاهدة تمسّ سيادتها وكرامتها الوطنية. ومنذ توقيع المعاهدة، سعت إلى تقويض الملحق العسكري تدريجيًا عبر فرض وقائع جديدة على الأرض تغيّر الواقع القائم. فعلى سبيل المثال، طلبت مصر من إسرائيل، أكثر من مرة وبأثر رجعي، المصادقة على نشر عدد أكبر من الجنود المصريين في سيناء بذريعة المساعدة في مكافحة الإرهاب.
شعور الإهانة في مصر كان نابعًا من اعتقادهم أن إسرائيل هي التي فرضت في مفاوضات كامب ديفيد عدد الجنود المصريين، والمعدات، وأنواع الأسلحة المسموح باستخدامها. مصريون تحدثت معهم خلال فترة خدمتي في مصر حاولوا إقناعي، لكن دون جدوى، بأنه لم يعد هناك أي مبرر لاستمرار نزع السلاح في سيناء.
مسؤولون إسرائيليون بارزون ممن عرفوا الرئيس عبد الفتاح السيسي أشاروا إلى أن موقفه السلبي تجاه الملحق العسكري كان واضحًا بشكل خاص، وأكدوا أن هذا الموقف شائع بين جميع الضباط المصريين. مثال على رغبة مصر في تقويض الملحق العسكري تجلّى في زيارة السيسي لقاعدة “مليز” (رفيديم) في نيسان/أبريل 2018. في شريط فيديو نشره الجيش المصري عن الزيارة، ظهرت طائرات F-16 مصطفة على مدارج القاعدة، رغم أن تحليق هذه الطائرات في أجواء سيناء محظور. كانت هذه الزيارة الرمزية، التي جاءت في سياق الحرب التي يخوضها الجيش المصري ضد خلايا الإرهاب في سيناء، تهدف أيضًا إلى تقويض القيود المفروضة على الجيش المصري هناك.
المتحدثون المصريون كرروا مرارًا على مدى السنوات أن معاهدة السلام أهانت مصر وأضرت بسيادتها في سيناء، مستخدمين في الإعلام تعبير “السيادة المنقوصة”. هذا الشعور بالإهانة استند إلى اعتقاد راسخ بأن إسرائيل هي التي أمْلت في مفاوضات كامب ديفيد عدد الجنود المصريين المسموح بهم، والمعدات، وأنواع الأسلحة المصرح باستخدامها. مصريون تحدثت معهم خلال فترة خدمتي في مصر حاولوا إقناعي، لكن دون جدوى، بأنه لم يعد هناك مبرر لاستمرار نزع السلاح في سيناء.
تخشى مصر بشدة من موجة هجرة جماعية للفلسطينيين إلى أراضيها في أعقاب عملية “مركبات جدعون ب” التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة. وقد أوضحت القاهرة مرارًا أنها ستعتبر مثل هذا التطور مساسًا بأمنها القومي، وأنها ترفض رفضًا قاطعًا حلّ قضية الفلسطينيين على حسابها. هذا هو السياق الذي يفسر الرفض المصري القاطع للمقترح الذي قدّمه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مطلع العام، باستضافة الفلسطينيين داخل الأراضي المصرية مقابل منحة مالية سخية بمليارات الدولارات.
من جانبها، يتعيّن على إسرائيل أن توضّح، بشكل رسمي وعلني وحازم، أنها لا تنوي دفع الفلسطينيين إلى الهجرة القسرية من قطاع غزة. مثل هذا التصريح الصادر عن جهة سياسية رفيعة وصاحبة صلاحية من شأنه تهدئة الأجواء في الخطاب الدائر بين الطرفين عبر وسائل الإعلام. يُذكر أن الرئيس عبد الفتاح السيسي وصف هذا الأسبوع إسرائيل بأنها “عدو” في خطابه خلال قمة عُقدت في قطر. وهي المرة الأولى منذ توقيع معاهدة السلام التي يصف فيها رئيس مصري إسرائيل بأنها “عدو”. هذا التصريح جاء ليس فقط على خلفية التصعيد في غزة، وإنما أيضًا بسبب قلق القاهرة من اغتيالات إسرائيلية استهدفت عناصر من حركة حماس داخل الأراضي المصرية، الأمر الذي قد يشعل الشارع المصري، إضافة إلى تجميد صفقة الغاز الجديدة بين الدولتين بقيمة 35 مليار دولار.
تصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، والخوف المصري من احتمال تدفق فلسطينيين عبر السياج الحدودي دفع القاهرة إلى تعزيز وجودها العسكري في منطقة رفح، لردع مثل هذا الاحتمال والتأهب له في حال تحقّق سيناريو الرعب من منظورها. ولا يُستبعد أن تستغل مصر هذه الظروف لتعزيز وجودها العسكري والاستمرار تدريجيًا في تقويض الملحق الأمني لمعاهدة السلام. وإذا استمرت الحملة العسكرية وما قد يرافقها من احتمالات تصعيد، قد لا تسارع القاهرة إلى سحب قواتها، بل قد تشترط انسحاب إسرائيل من ممر فيلادلفيا الذي تعتبره خرقًا لمعاهدة السلام.
في مثل هذا الوضع، ستجد إسرائيل صعوبة في مطالبة القوة متعددة الجنسيات المكلّفة بمراقبة خروقات الطرفين، أو حتى الولايات المتحدة، بالتحرك لإعادة الوضع إلى ما كان عليه. وقد نجد على حدودنا انتشارًا أوسع للجيش المصري، الأكبر والأقوى في العالم العربي. وبدلًا من “ريفييرا فلسطينية” في غزة، قد نشهد “بروفا أولية” لمواجهة جديدة مع مصر.
واي نت 23/9/2025