لندن- “القدس العربي”:
نشرت صحيفة “الغارديان” مقال رأي كتبته أورلي نوي، محررة المجلة العبرية “لوكال كول” قالت فيه إن عامين على الحرب اختفى فيها الكثير من الناس وضيعت فيها الأخلاق، قد غيرت غزة وإسرائيل. وقالت إن الشفاء من الحرب لن يتحقق طالما لم يحدق العالم في الفراغ الذي انفتح واسعا بسبب الحرب واعترف به.
وقالت إنها تلقت بعد أسبوعين من هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر رسالة عبر واتساب من شخص تعرفه في غزة يطلب منها وضع أمه التي كانت تعالج في القدس الشرقية، ولم يستطع الوصول إليها. وعندما طلبت منه التفاصيل عن أمه توقف عن الرد. وبعد عامين تلقت رسالة مكتوبة بالعربية وبدون ميعاد تقول “مرحبا أورلي”، وقد فرحت بها وسألت عنه وعن حالته، فكان الرد: “قتل محمود في بداية الحرب وأنا أخته”، وقدمت الكاتبة العزاء لها، وسألت عن وضعها، لكنها لم تتلق أي رد.
وتعلق نوي قائلة: “من الصعب التعبير بالكلمات عن الجحيم غير المسبوق الذي فتحت أبوابه في العامين الماضيين. ربما كانت الكلمة الوحيدة التي تعبر عن جوهر الوضع الذي لا يمكن فهمه: الغياب. ويبدو أن كل شيء قد اختفى، ليس فقط عشرات الآلاف من الفلسطينيين في غزة الذين تم محوهم بدون قبور وبدون سجلات وكأنهم لم يكونوا موجودين أبدا، ولكن هناك الكثير من الأشياء التي تم إفراغها: المبادئ الأساسية للأخلاق، المروءة، العطف، الإنسانية، المستقبل والأمل”.
كما تم محو منطق الحياة اليومية المنظمة. لا شيء له معنى ويبدو أن أحدا هنا لم يعد يتوقع أي معنى. فالحرب التي كان عنوانها استعادة الأسرى وتفكيك حماس، وتحت شعار غامض “النصر الكامل”، تحولت إلى إبادة جماعية شاملة. وقد آمن المجتمع الإسرائيلي بها، سواء كان خائفا أو منتشيا، وسمح بكسر التابو وإمكانية الحلم بشكل مفتوح باختفاء الفلسطينيين إلى الأبد.
تقول الكاتبة إنه “بعد عامين على هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، حذرت من الانتقام الذي لن يحقق أي شيء سوى العنف والمعاناة. وخشيت من الرد الإسرائيلي الجامح الذي عرفت أنه سيتبع ذلك، ولم أكن أتوقعه في كوابيسي. ولم أكن أتخيل أن تتحول إلى إبادة محسوبة ومنظمة. ولم أكن أتوقع أن تصل إسرائيل إلى نقطة تجويع الناس حتى الموت. ولم أصدق أنها ستمحو، في المتوسط، فصلا دراسيا من الأطفال كل يوم لمدة عامين كاملين. ولم أصدق أيضا أن العالم سيسمح لإسرائيل بفعل كل هذا، تحت مبرر معاداة سامية منحرفة ومقلوبة تقول فعليا: قواعد الإنسانية لا تنطبق على هذه الجماعة اليهودية”.
وتضيف نوي: “لقد تم تطبيع أشياء غير طبيعية للغاية هنا في هذين العامين. اندلعت نقاشات حول ما إذا كان أطفال غزة المنتفخة بطونهم قد ماتوا بالفعل من الجوع أو ما إذا كانت لديهم أعراض صحية سابقة، وبالتالي لم يكن لإسرائيل يد في وفاتهم. وتحويل نقطة مراقبة على قمة تل في بلدة سديروت الحدودية الإسرائيلية إلى نقطة سياحية شعبية للإسرائيليين الذين جاءوا لمشاهدة أعمدة الدخان المتصاعدة فوق غزة، بفرح شديد”.
وتقول إن تنافرا معرفيا مذهلا هيمن على المجتمع الإسرائيلي، حتى بعد أن تأكد تماما أن تدمير غزة وسكانها لن يعيد الأسرى، بل سيعرضهم للخطر كما شهد كل أسير أفرج عنه، وحتى بعد ثبوت أن السبيل الوحيد لإعادتهم أحياء هو الاتفاقيات ووقف إطلاق النار، استغرق الأمر وقتا طويلا جدا قبل أن تتضمن مظاهرات الأسرى دعوات لإنهاء الحرب. وحتى حينها، لم يجرؤ أحد تقريبا على الحديث عن الجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي، ولم تكن هناك حركة جماهيرية للمعترضين ضميريا بين الجنود الرافضين للمشاركة في تلك الجرائم.
وتقول إنه ومنذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، اختفت وسائل الإعلام هي الأخرى، بالمعنى الذي ينبغي أن تكون عليه. فباستثناء بعض الجيوب الهامشية، أخفت الصحافة الإسرائيلية عمدا أهوال غزة، بحيث أصبح المواطن العادي، في أي مكانٍ تقريباً في العالم، على دراية بما يحدث في القطاع طوال الحرب أكثر من المواطن الإسرائيلي العادي. وحتى عندما انتشرت الصور على مواقع التواصل الاجتماعي، لم يكن لدى الناس أبسط الأدوات لفهم ما يرونه. وهكذا، بينما استاء العالم من تجويع إسرائيل لغزة ومجازرها العشوائية بحق المدنيين، حظيت الدولة في إسرائيل بالثناء لكرمها في السماح لأي شاحنات مساعدات بالدخول إلى “العدو” خلال الحرب.
واختفت المعارضة السياسية أيضا، فالسياسيون الذين بنوا مسيرتهم المهنية على معارضة بنيامين نتنياهو، حشدوا صفوفهم خلفه عندما تعلق الأمر بإبادة الفلسطينيين في غزة، وضد كل هجوم إسرائيلي خطير وعبثي على سلسلة من الدول في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وبلغ هذا الجنون ذروته في دعم المعارضة الحماسي لقصف وفد حماس في الدوحة، وهو وفد كان من المفترض أن يتفاوض على مصير الأسرى الإسرائيليين، حتى مع ارتداء كل من هؤلاء السياسيين دبوسا على صدره يعلن تضامنه مع الأسرى لمدة عامين كاملين.
فقد تم إسكات أي معارضة حقيقية للحرب بوحشية منذ اليوم الأول من قبل الشرطة، بقيادة إيتمار بن غفير. واعتقل القادة الفلسطينيون لمجرد إظهارهم نية تنظيم مسيرات ضد الحرب واعتقل مئات المواطنين العرب أو عزلوا من وظائفهم لإظهارهم تضامنا مع سكان غزة. ووصف اليهود الذين عارضوا الحرب بالخيانة و”اليهود الكارهين لأنفسهم”، بمن فيهم شركاء سابقين في معسكر السلام.
وتقول الكاتبة: “بقلب محطم، شاهدت هؤلاء الرفاق السابقين يستعيدون رشدهم بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر، ويشاركون في تغذية خطاب عنيف حاقد ضد الفلسطينيين في غزة والفلسطينيين عموما والإسلام”.
وتضيف أن ثمة أمر آخر اختفى خلال هذين العامين: الكثير من الروابط الشخصية، بما في ذلك مع الأصدقاء المقربين وأفراد العائلة المباشرين.
و”في زيارة لمتحف هيروشيما التذكاري للسلام قبل بضعة أسابيع، أذهلني مدى ألفة الصور، مع أن غزة تبدو، من حيث الدمار، أسوأ بكثير من هيروشيما بعد القنبلة الذرية التي لم تدمر كيلومترات من المباني القائمة. في هيروشيما، أودت القنبلة بحياة ما بين 90,000 إلى 140,000 شخص، أما في غزة، فتشير بعض التقديرات إلى أن العدد يتجاوز 100,000 شخص، ولن يعرف الرقم النهائي حتى بعد انقشاع غبار الحرب”.
وتقول: “لفتت انتباهي صورة واحدة في المتحف: ظلٌ بشريٌ محفور في الحجر”، وهي ظل شخص كان جالسا على ما يبدو عند مدخل بنك عندما سقطت القنبلة، ولم يبق منه سوى أثر ظله على الدرج. ربما هذا هو ما تصبح عليه الأهوال العظيمة دائما: الغياب الذي تتركه وراءها، وهكذا في غزة، وبطريقة مختلفة تماما وكذلك في إسرائيل أيضا”.
تضيف: “لا أعرف ما إذا كان، أو ما الذي سيتركه الفراغ الذي خلفه عامان من الدمار والموت الذي لم ينته بعد. من السابق لأوانه الجزم بذلك، شيء واحد يمكن أن يقال: لا يمكن لأي تقدم أن يتحقق حتى ننظر إلى هذا الفراغ، هذا الغياب، هذه الهاوية ونستوعب أبعادها ونضع حدا لهذا الجنون”.