ضحكت ثم نمت…


كتبت كثيرا عن مشاكل الثقافة والمثقفين والأدب والأدباء منذ بدأت أكتب المقالات. كم عاما مرت على البدايات. أكثر من خمسين عاما. تغير الحكام وممثلوهم في وزارة الثقافة وتغير الأدباء. رحل الكثيرون، وكثيرون ظهروا لكن ظلت المشاكل لا تنتهي. دائما ما أفرق بين المشاكل بين الكتاب أنفسهم، وبينهم وبين النظام الحاكم. عادة لا يتفق الأدباء كلهم على معارضة الحكم، فهناك من يعيش منفردا مع ما يكتبه يستغني به عن كل شيء، لكنني عشت زمنا كانت الأغلبية تقف على الضفة الأخرى وعرفتها السجون، وهي المعارضة التي استمرت خلال سنوات مبارك، وحتى لو قلّت بعد ذلك، خاصة بعد أن صارت ثورة يناير/كان ن الثاني ذكرى، واشتدت يد الحكم على البلاد والعباد.
صار غضب الكثيرين من الكتاب من وزارة الثقافة، أو أجهزتها، أو بعض دور النشر، أو النقاد، وصار الغضب من النقاد يشغل مساحة كبيرة، وهو سبب كتابة هذا المقال. كثيرا ما يكون وراء المعارض شعور بالغبن، ويتجلى هذا أكثر حين تظهر جوائز الدولة، أو غيرها من الجوائز البعيدة عن الدولة، أو من بلاد عربية.. البعض يرى أن الجوائز تحكمها شِلل أو جماعات ولا أهتم، فلن ينتهي الحديث. لكن يظل الغضب من النقاد مستمرا ويتسع حتى لو بالإيحاء، رغم أن العالم تغير فصارت هناك وسائل للشهرة غير النقد، مثل صفحات على فيسبوك ممولة من قبل الناشر، أو المؤلف، للحصول على قدر كبير من علامات الإعجاب على عمل الكاتب، أو أعمال الدار.
لم أعد أقف عند ذلك، ولا عند الإعلانات عن الكتب الأكثر مبيعا، سواء كان لي كتاب بينها أم لا. لا أسأل ولا أهتم لأنه من ناحية بعضها صحيح، ومن ناحية أخرى قد تكون سياسة من الناشر لترويج بعض الأعمال. أيضا فإن الذي سيذهب لشراء الكتاب الأكثر مبيعا قد يشتري غيره. صرت كما قلت كثيرا أجد متعتي كلها في الكتابة نفسها، أما ما بعدها فلا يتسع لي الوقت، أو المزاج لمتابعته، أو حتى التفكير فيه. ضاق الأمر بي في مصر في السنوات الأخيرة حين أصاب بعض دور النشر الهلع، من كلمة تراها نابية، أو كسر التابوهات التي هي أجمل ما يفعله الكاتب، فلم ألُم أو أعاتب أيْ دار نشر، وصرت أنشر رواياتي في الخارج. صار نصيبها من النقاد قليلا، لأن ما يصل إلى مصر من نسخ قليل أيضا، وانا لا أقوم بتوزيع نسخ على الأصدقاء من النقاد إلا صدفة، حين يلتقيني أحدهم في معرض القاهرة الدولي للكتاب، حاملا نسخا من كتابي الجديد إلى مصر، ولا أسأله بعد ذلك ماذا فعل، ودائما أدافع عن النقاد، فهم بشر مثلنا لديهم ما يشغلهم. لكن لماذا حقا ضحكت ثم نمت؟
حدث أن أقام أتيلييه القاهرة برئاسة الفنان أحمد الجنايني، ومعه الشاعرة والكاتبة عزة رياض، مساء الخميس الخامس والعشرين من سبتمبر/أيلول، لقاءً لتكريمي، وبحضور اثنين من أهم الكتاب هما، أحمد فضل شبلول ابن الإسكندرية الذي يبدع الشعر والرواية والنقد وأدب الأطفال، ومن أعماله الشعرية «تغريد الطائر الآلي» و»شمس أخرى وبحر آخر» ومن رواياته «الليلة الأخيرة في حياة محمود سعيد» و»الليلة الأخيرة في حياة نجيب محفوظ»، والذي خصني عبر السنين الماضية بمقالات. كان أول من كتب عن روايتي «في كل أسبوع يوم جمعة» عند صدروها عام 2010. كذلك كتب عن رواية قصيرة لم تنل حظها من الشهرة، وهي «شهد القلعة»، رغم أن شكلها الفني ومكانها يستحقان العناية، لكن هذا ما حدث، فحين نشرتها لأول مرة، طبع الناشر نسخا قليلة منها، ثم لا أعرف أين ذهب فقد توقف عن النشر، ومضت أكثر من خمس عشرة سنة لأعيد طبعها في دار الشروق المصرية منذ عامين. الكاتب الثاني الذي كان في الندوة هو أيمن تعيلب أستاذ الأدب العربي في جامعة قناة السويس، وهو من أبرز المفكرين في مجال الدراسات النقدية والأدبية. ومن أعماله المهمة «الشعرية العربية المعاصرة والتلقي النقدي» و»خطاب النظرية وخطاب التجريب.. تفكيك العقل النقدي العربي» و»التحديق في الشرر» وهو سيرته الذاتية. وغيرها كثير. فضلا عن مئات الأبحاث التي ساهم بها في المجلات والمؤتمرات، والذي خصني بكتاب كامل عن كتابي «ما وراء الكتابة تجربتي مع الإبداع»، الذي فاز بجائزة الشيخ زايد في الآداب عام 2016. كتاب أيمن تعيلب يحمل عنوان «سرديات ما وراء الكتابة – الأشكال الجمالية والأنساق الدلالية»، وصدر أول هذا العام عن دائرة الثقافة بالشارقة في سلسلة دراسات نقدية. رسائل كثيرة للماجستير والدكتوراة في مصر وخارجها، تمت عن أعمالي. بعضها تمت طباعته، وبعضها لم تتم طباعته، وربما طبعت ولم تصلني، عن رواياتي وقصصي القصيرة، لكن كتابا عن كتاب لي أمر أسعدني غاية السعادة.
مما أثاره أيمن تعيلب في حديثه في الندوة، تساؤلاتي في كتابي عن ذنوب النقاد الجميلة، التي يأتي جمالها من الكتابة عن الكتّاب، لكن الذنب يأتي من تطبيق الكثيرين منهم مناهج النقد الأجنبية على العمل، بينما قد يكون العمل لحظات جنون من الكاتب، بها ما هو أبعد أو أعمق من مناهج النقد المعروفة، فلا أحد في الإبداع يضع في ذهنه ما قد يكتبه النقاد عنه. المبدع الحقيقي هو أسير الصدق الفني، وخضوعه لشخصياته، ومكان وزمان الرواية، وليس جديدا القول إني أو غيري من المبدعين أثناء الكتابة، لا يدرك ما حوله إلا بعد أن يكف عن الكتابة، فالإبداع وحده يقيم عالما للكاتب يغنيه أو يأخذه عن كل ما حوله. أوضحت قصدي في الندوة مما كتبت، ومعنى الذنب الجميل، حتى لا يسيء أحد الفهم، في عالم يبحث عن عناوين مثيرة، ويختزل الموضوع على صفحات السوشيال ميديا جذبا للقارئ، غير مدرك إساءته للكاتب. كما أني رأيت في حياتي ومما قرأت كثيرا من المبدعين بعد الشهرة، يسيئون للنقاد، متناسين أنهم أحد أسباب شهرتهم. المهم عدت إلى البيت وكانت الساعة تقترب من الثانية عشرة ليلا، ويجب أن أنام، فلم أعد أسهر حتى الصباح كما كان يحدث من قبل. طالت الندوة على غير ما توقعت، وشغلت أكثر من ثلاث ساعات. النوم يناديني. كعادتي قبل أن أنام أطل على التلفزيون لعلي أرى فيلما يعجبني، أحرص على أن أراه كاملا في اليوم التالي. رأيت أمامي على قناة Mbc2 فيلما أجنبيا قديما عنوانه: Cloud Atlas «أطلس السحاب أو الأطلس الغائم».
فيلم قديم يطوف في بلاد وأزمنة وحكايات خيالية، لكن ما كان أمامي حكاية غريبة من حكاياته الكثيرة، عن كاتب كتب رواية في لندن لم تحقق مبيعات، يتحدث مع الناشر في ضيق عن ذلك. يقول له الناشر لا تغضب فهيرمان مِلفيل كتب روايته العظيمة «موبي ديك» ولم تشتهر إلا بعد موته. قال له الكاتب وماذا يفيدني من ذلك بعد موتي. ويخبره أن ناقدا هو السبب، لأنه كتب يسبه على روايته وكيف هي تافهة، ويخرج له من جيبه ورقة يحتفظ فيها بما كتبه الناقد عن ذلك. يأتي المشهد التالي في حفل كبير حافل بالبشر، يلتقي فيه الكاتب والناقد أعلى سطح منزل يزيد عن خمسة عشر طابقا. حفل لا علاقة له بالكتابة، فيتقدم الكاتب ليخبر الجميع أن لديه مفاجأة جميلة سينهي بها الحفل. يقول له الناقد ما هي نهاية هذا الكلام، وأنت لم تعرف كيف تنهي روايتك التافهة، فيتقدم الكاتب ويحمله ثم يلقي به من أعلي الطابق الذي به الحفل، ليسقط الناقد ميتا في الشارع. طبعا سيتم القبض على الكاتب، لكنني نمت على الفور ضاحكا، وقلت لنفسي كأنما انتظرني الفيلم تعليقا على علاقة الكتّاب بالنقاد، وحمدت الله أن أحدا في بلادنا لا يفعل ذلك.

كاتب مصري



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *