الأمم المتحدة- “القدس العربي”:
عقدت في مقر الأمم المتحدة ندوة إعلامية دولية حول السلام في الشرق الأوسط بعنوان “كسر الحواجز: التنقل عبر المخاطر والتعقيدات في التغطية الصحافية من غزة والضفة الغربية”، وذلك بتنظيم من إدارة الأمم المتحدة للتواصل العالمي، وسط مشاركة واسعة من الصحافيين والخبراء والدبلوماسيين.
وركزت الندوة بشكل أساسي على استهداف وتصفية الصحافيين في غزة، وهي القضية التي أصبحت واحدة من أكثر القضايا إلحاحاً في مجال حرية الصحافة على المستوى العالمي.
افتتح السفير رياض منصور، المراقب الدائم لدولة فلسطين لدى الأمم المتحدة، الندوة بتأكيد أن قضية فلسطين تظل مسؤولية دائمة للأمم المتحدة والقضية الجوهرية في الشرق الأوسط. وأشاد بالصحافيين الفلسطينيين الشجعان في غزة، مؤكداً أن الإبادة الجماعية في غزة أصبحت الأكثر توثيقاً في التاريخ بفضلهم، وحيّا شجاعتهم ومثابرتهم في مواجهة الموت والتهديدات والترهيب.
وأكد منصور أن إسرائيل لم توقف هجماتها ومضايقاتها ضد الصحافة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مستشهداً بمقتل شيرين أبو عاقلة في الضفة الغربية وياسر مرتجى في غزة دون أي مساءلة. وأضاف أن عدد الصحافيين القتلى في غزة تجاوز أي عدد في أي حرب، بما في ذلك الحرب العالمية الثانية، لأن العدو الرئيسي لإسرائيل هو الحقيقة، وهي تسعى لإخفائها من خلال اغتيال الصحافيين وحجب الاتصالات ومنع دخول الصحافة الدولية.
ودعا منصور المجتمع الدولي للانضمام إلى جهود تحقيق المساءلة، مؤكداً أنها السبيل الوحيد لمنع مقتل المزيد من الصحافيين ولحماية حرية الصحافة في العالم. وطالب بممارسة الضغط على إسرائيل للسماح للصحافة الأجنبية بدخول غزة، رافضاً حججها الأمنية، ومشيراً إلى أن الصحافيين الأجانب سُمح لهم بالدخول إلى كل مناطق الحرب باستثناء غزة.
شارك في الندوة عبر رسالة فيديو الصحافي الغزي وائل الدحدوح، الذي قدم شهادة مؤثرة حول التجربة الصحافية في غزة، مؤكداً أنها تجربة لا مثيل لها في أي مكان آخر في العالم، لأن الصحافيين يغطون أحداثاً وإبادة جماعية تتعلق بهم وبعائلاتهم وبأطفالهم وبأحبائهم وبالمكان الذي ينتمون إليه ولثقافتهم وتاريخهم ومستقبلهم.
وأوضح الدحدوح أن قطاع غزة منطقة صغيرة جداً من الناحية الجغرافية، ومكتظة بالسكان ربما أكثر من أي مكان آخر، بالإضافة إلى أنها تعرضت لسلسلة من الحروب والاجتياحات والحصار على مدى عقدين من الزمن حتى وصلنا إلى هذه الحرب الأخيرة.
وأشار الدحدوح إلى أنه عندما بدأت الحرب، أغلق جيش الاحتلال الإسرائيلي هذه المنطقة الجغرافية وعزلها عن العالم الخارجي، ومنع الصحافيين الأجانب من الوصول إلى غزة للمشاركة في تغطية الأحداث، كما قطع الكهرباء، والمياه والاتصالات والإنترنت. ووجد السكان أنفسهم نازحين دون الحد الأدنى من معايير الحياة تحت القصف وتدمير المنازل.
وقال إن هذا نقل رسالة واضحة للصحافيين بأن جيش الاحتلال الإسرائيلي يريد مهاجمتهم وعزلهم، وأن العدو خلفهم والبحر أمامهم، وأنهم بحاجة للإبحار في هذا البحر بكل مخاطره وتكاليفه.
وأكد الدحدوح أنه لم تكن هناك معابر ولا سفر ولا أماكن آمنة في قطاع غزة، لا خيمة، ولا مستشفى ولا مدرسة ولا شارع، فكل شيء تعرض للهجمات.
وأضاف أن هذا أجبر الصحافيين على العمل وحمل حياتهم على أيديهم والاستمرار لأنهم كانوا يعرفون المخاطر واستمروا في هذا الواجب، موضحا أن هناك مسؤوليات كثيرة شعروا بها تجاه العالم، لأنهم أدركوا أنه إذا لم يؤدوا واجبهم بإرادتهم، حتى لو كان الثمن حياتهم، فإن العالم لن يرى ما يحدث لمليوني شخص في هذه المنطقة نتيجة للإبادة الجماعية الإسرائيلية.

من جانبها، قدمت السيدة ابتسام عازم، مراسلة صحيفة العربي الجديد في مقر الأمم المتحدة والروائية الفلسطينية، تحليلاً عميقاً حول الأبعاد الثقافية والإعلامية لقتل الصحافيين الفلسطينيين. وأكدت أن قتل مثل هذا العدد الكبير من الصحافيين الفلسطينيين لا يعني فقط قتل الأفراد، بل له آثار عميقة على الثقافة الفلسطينية وما وراءها.
وأشارت عازم إلى أن كثيرا من الصحافيين إما قتلوا أو سجنوا، والكثير منهم فقد أفراداً من عائلاتهم. إن التأثير المخيف لهذا القتل يعني أيضاً قتل الرسول والشاهد.
وشددت عازم على أن قتل الصحافيين يعني قتل المعرفة التراكمية والذاكرة للمستقبل الفلسطيني والثقافة الفلسطينية، وهو أيضاً قتل للذاكرة الفردية والجماعية. وأوضحت أن الذاكرة لعبت دوراً هائلاً لفلسطين منذ النكبة وحتى اليوم، ليس فقط للأفراد أو الجماعات، بل أيضاً للبحث والفن والروايات ووسائل الإعلام، وأن هذا يتجاوز فلسطين لأنه أيضاً تراث جماعي لنا جميعاً.
وقدمت عازم مفهوماً مهماً وهو “الاغتيال الافتراضي للمعرفة”، حيث أشارت إلى أن بعض هؤلاء الصحافيين بعد مقتلهم، تم حذف حساباتهم الإعلامية وحسابات التواصل الاجتماعي، مما يعني نوعاً من الاغتيال الافتراضي عبر الإنترنت لمعرفتهم. وأضافت أن هناك أيضاً كسراً لسلسلة المعرفة، حيث إن هؤلاء الصحافيين حصلوا على معرفتهم من صحافيين آخرين ومن علماء وأساتذة، وأن هناك انقطاعاً في سلسلة المعرفة داخل الثقافة الفلسطينية وأيضاً للصحافة الدولية بشكل عام.
وتطرقت عازم إلى قضية تهميش الأصوات الفلسطينية بشكل عام في وسائل الإعلام والمنصات الغربية، مع الإشارة إلى أنها تتحدث عن وسائل الإعلام التقليدية الكبرى، مع الاعتراف بأن هناك من يقومون بعمل رائع. وطرحت سؤالين مهمين: هل رأينا هذا يحدث في مناطق حرب أخرى في وسائل الإعلام الغربية؟ وكيف يختلف هذا عندما يتعلق الأمر بفلسطين؟
وأشارت عازم إلى أن هناك ظاهرة مستمرة من التغطية الإعلامية الاستشراقية والاستعمارية في بعض وسائل الإعلام الغربية الكبرى تجاه فلسطين. ويمكن ملاحظة هذا التحيز بشكل جلي عند مقارنة التغطية الإعلامية للحرب في أوكرانيا، حيث تظهر المعايير المزدوجة بوضوح.
وأوضحت أن اللغة المستخدمة غالباً ما تقلل من المسؤولية الإسرائيلية، فمثلاً يُقال عن الفلسطينيين إنهم “يموتون” بدل أن يُقال إنهم “يُقتلون”، وغالباً ما يُحذف ذكر أن إسرائيل هي المسؤولة عن القتل. كما أكدت أن السياق الكامل للأحداث يُهمل في كثير من الأحيان، فتُناقش مثلاً أحداث السابع من أكتوبر كما لو كانت معزولة عن واقع الصراع الأكبر.
وقدمت عازم مفهوم “الاستثناء الفلسطيني” في الأوساط الأكاديمية ووسائل الإعلام، موضحة أن هذا الاستثناء راسخ جداً في وسائل الإعلام الغربية. وشرحت أن هذا يعني أن الموضوعات المتعلقة بفلسطين تُعامل كاستثناء، أي أنها تُعامل بشكل مختلف، وتُخضع لمعايير غير عادية، أو تُعامل كموضوعات مثيرة للجدل مقارنة بصراعات شعوب أخرى أو ظروف الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري.
وأوضحت عازم أن هذا يظهر في وسائل الإعلام بطرق متعددة، حيث أن المعايير العادية للأدلة تصبح استثنائية عندما يتعلق الأمر بفلسطين، وهناك فرق واضح في التعاطف مع الضحايا الفلسطينيين مقابل الضحايا الإسرائيليين. كما أشارت إلى أننا لا نرى غالباً استخدام مصطلحات مثل “احتلال” أو “الأراضي الفلسطينية المحتلة”، على الرغم من أنها وفقاً للقانون الدولي والأمم المتحدة أراضٍ محتلة، لكن غالباً ما يتم حذف هذا. وكذلك الحديث عن الإبادة الجماعية، على الرغم من أن هناك العديد من منظمات حقوق الإنسان الدولية، بما في ذلك منظمات إسرائيلية مثل “بتسيلم”، توصلت إلى استنتاج أن إبادة جماعية تُرتكب، إلا أن هذا لا يُذكر أيضاً.
وختمت عازم بالإشارة إلى قضية الشك في أعداد الضحايا الفلسطينيين، حيث تم التشكيك في أعداد القتلى الفلسطينيين باستمرار، خاصة في البداية، ومع الأسف شهدنا ذلك ليس فقط في وسائل الإعلام، بل حدث أيضاً مع الرئيس الأمريكي آنذاك جو بايدن وآخرين.
شكّلت الندوة منصة مهمة لتسليط الضوء على واحدة من أخطر الأزمات التي تواجه الصحافة في العالم اليوم. وإلى جانب المتحدثين الرئيسيين، شارك في الندوة أيضاً عبر رسائل فيديو كل من الصحافي ناصر أبو بكر، والصحافية تانيا كريمر، والصحافي حجاي ماتار، بالإضافة إلى مشاركة السيدة جودي جينسبيرغ ضمن النقاش الحي.
وأدارت الحوار السيدة ميليسا فليمنغ، رئيس إدارة الأمم المتحدة للتواصل العالمي. وعلى الرغم من اختلاف خلفيات المتحدثين ومواقعهم الجغرافية، إلا أن القاسم المشترك بين جميع الشهادات والمداخلات تمحور حول الاستهداف غير القانوني للصحافيين في غزة والضفة الغربية، وانتهاك حمايتهم بموجب القانون الدولي، والتأثير المدمر لهذا الاستهداف على حرية الصحافة وحق العالم في المعرفة. لقد أصبح الصحافيون الفلسطينيون في غزة يدفعون أعلى ثمن في تاريخ مهنة الصحافة، ليس فقط بحياتهم، بل أيضاً بحياة عائلاتهم وبذاكرتهم الجماعية ومعرفتهم التراكمية التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من التراث الإنساني العالمي.