سياسة إغراق الجروح بالملح


لقد علمنا أهلنا أن للشر صورا محددة حفظناها عن ظهر قلب وتعلمناها في المدرسة أيضا. الشر هو أن تكذب وأن تسرق وأن تقتل. لم نكن ندري أن الشر يمكنه أن يتجسد بأشكال أخرى لم نألفها ولم نتعلمها أو حتى نقرأ عنها. لم نكن نعلم أن الشر يمكنه أن يتجسد بجعل الإنسان يعيش في الماضي وذكرياته وعذاباته وبشاعته، أكثر مما يعيش في الحاضر، من أجل السيطرة على هذا الإنسان وإخضاعه ومنعه من العمل والإنجاز والتطور. كل الشعوب لها تاريخ دموي حافل بالمذابح والإبادة والتنكيل والتشرد، ويكاد لا يخلو تاريخ أي أمة من هذه الفظائع الدموية والحروب المدمرة. ولكن ما يدعو للدهشة حقا هو أن يتم استغلال هذه الفظائع لتوظيفها توظيفا بشعا ومدمرا للتلاعب بالشعوب والهيمنة عليها، وتحقيق مآرب سياسية شريرة تتمثل بغزو الدول الأخرى وتشريد أهلها وسرقة أراضيها وأموالها، رغم ألا علاقة لهم لا من قريب أو بعيد بالمتسبب الحقيقي لهذه الفظاعات الدموية الماضية.
لقد ابتكرت الأيديولوجيات السياسية المستبدة وسائلها في بسط هيمنتها على الشعوب، والتأكد من أن هذه الهيمنة ستنتقل من جيل لجيل، دون انقطاع أو توقف. فعن طريق إحياء ذكرى الفظائع التاريخية البشعة والمؤلمة، التي عفا عليها الزمن وتراكمت عليها الأتربة وأصبح أبطالها عظاما نخرة تمارس هذه الأيديولوجيات غسيلا منظما للأدمغة، خصوصا الأجيال التي لم تشهد الأحداث بنفسها من أجل زرع ثقافة الكراهية والمظلومية الزائفة، وروح الثأر من أعداء وهميين لم يعد لهم أي وجود واقعي في العصر الراهن.

فالروح الصهيونية مثلا تم إبقاؤها على قيد الحياة لعشرات السنين جذوة مشتعلة في قلوب اليهود، من خلال ترسيخ الشعائر الدينية والثقافية اليهودية، وكذلك من خلال تعزيز الشعور بالمظلومية التاريخية، وإذكاء ذكريات المحرقة التي تعرض لها اليهود في ألمانيا النازية متقدة لا تخبو ولا تنطفئ. وكلما خبت وعلاها الرماد، كان لا بد من صب المزيد من الزيت عليها لتبقى مشتعلة لا تموت، وتنتقل إلى الأجيال اليهودية المتعاقبة، ويكون الهدف من هذا كله ترسيخ الثقافة الإسرائيلية العسكرية وأجندتها. فالشعائر الدينية مثل الصلوات جعلوها تشير إلى العودة للقدس باعتبارها الأرض الموعودة من إله اليهود والأعياد اليهودية، كذلك أصبحت مناسبات للتعبئة السياسية ومنح الصهيونية الشرعية التاريخية. وبدلا من اطلاع الطلبة في المدارس اليهودية على المحرقة النازية، كمادة تاريخية أو ثقافية، باعتبارها إبادة جماعية حصلت لليهود، وأن لها مثيلات من حملات التطهير العرقي أو الديني في التاريخ البشري المعاصر، يتعلم الطلبة أن المحرقة هي حادثة فريدة من نوعها وأنها لا تشبه أي حادثة أخرى في التاريخ المعاصر. فالطالب اليهودي لا يدرس عمليات الإبادة الجماعية المماثلة للمحرقة كالإبادة الجماعية في رواندا والإبادة الجماعية للمسلمين في البوسنة والهرسك، ومذابح الأتراك للأرمن والمذابح التي قام بها الخمير الحمر لملايين الكمبوديين واستغلال الملك البلجيكي ليوبولد وإبادته لما يقرب من عشرة ملايين شخص في الكونغو، بل إنهم لا يدرسون إلا القليل عما يسمى بمسار الدموع وهي عملية التطهير العرقي والإبادة الجماعية، التي تعرضت فيها قبائل الهنود الحمر للنزوح القسري من أوطانها الأصلية في جنوب شرق الولايات المتحدة الأمريكية إلى الأراضي الواقعة غرب نهر المسيسيبي بين عامي1830 و1850.

وبالتالي فإن التعتيم المتعمد الذي مارسه الفكر الصهيوني للكوارث الإنسانية الأخرى المماثلة للمحرقة النازية جعل اليهود يفتقرون للوعي بالمعاناة الإنسانية التي حدثت للشعوب الأخرى. وهذا ما جعلهم يصابون بما يسمى «النرجسية العرقية» التي جعلت الكثير منهم يكادون لا يعلمون شيئا عن المذابح التي ارتكبتها الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني عبر أكثر من سبعين عاما. ولا يقتصر التعليم اليهودي على استغلال فظائع المحرقة لاستعمالها كمادة لتشكيل الفكر الصهيوني، وإنما يضم المنهج التعليمي كذلك القيام برحلات تراثية إلى بولندا، تنظمها منظمات صهيونية مختلفة. تتضمن هذه الرحلات زيارة لمعسكرات الاعتقال وغرف الغاز ومحارق الجثث والمقابر الجماعية في بولندا، التي كانت يوما موطنا مزدهرا لليهود. والهدف من الرحلات هو جعل الطلبة يتصورون ما حصل في المحرقة ويعيشون معاناة الضحايا، وأيضا لإدامة شعلة الوجع والخوف من تكرار هذه الأحداث وتبرير حق اليهود في إقامة دولتهم.
لقد استخدم الخطاب الصهيوني آلياتٍ دقيقة في توجيه الوعي الجمعي اليهودي، عبر استثمار الذاكرة التاريخية المؤلمة للمحرقة، وتحويلها إلى محورٍ دائم للهوية السياسية. فبدل أن تكون تلك المأساة مدخلاً للتعافي ومراجعة التجربة الإنسانية بكل أبعادها، جرى توظيفها لإنتاج أجيالٍ تتبنى الفكر الصهيوني الذي يقوم على الخوف من الآخر، وعلى تبرير السيطرة باسم النجاة التاريخية. بهذا المعنى، لم تُعامَل المحرقة في السياق الإسرائيلي الحديث كحدثٍ تاريخي يجب تجاوزه بالوعي، بل كجُرحٍ مفتوح يُستدعى باستمرار لكسب التعاطف الدولي وتبرير المطالبة بوطنٍ قومي، ولو جاء ذلك على حساب شعبٍ آخر يعاني مأساة مشابهة.
إنّ استغلال الأيديولوجيات السياسية للتاريخ الدموي والذاكرة الجمعية ليس حكرا على الصهيونية وحدها، بل هو سلوكٌ شائع لدى أنظمةٍ وحركاتٍ تسعى إلى تثبيت سلطتها وهيمنتها عبر إحياء المآسي القديمة وإبقاء الشعوب أسيرةً لها. ومن خلال استعراضاتٍ وطقوسٍ واحتفالاتٍ تستعيد صور الألم والفقد، تُغذَّى ذاكرة الماضي بالحزن والغضب، لا من أجل الشفاء، بل من أجل إبقاء الجروح مفتوحة تخدم أغراض النفوذ السياسي والهيمنة الرمزية.
فبدلا من أن تقدم الصهيونية علاجا للصدمة والجروح النفسية للناجين من المحرقة كجلسات استشفاء للتعامل مع الإرث العاطفي الثقيل، وتجاوز الصدمة ونسيانها، عملت بكل قواها على جعل هؤلاء الناجين وأولادهم وأحفادهم وجميع يهود العالم يخوضون غمار هذه المحرقة المرعبة من جديد، خلال حياتهم كما عمدت على جعلهم لا يشاهدون لا هم ولا أولادهم أو أحفادهم أي جانب آخر من الحياة، إلا أنهم الناجون من المحرقة. الصهيونية لم تشأ أن ينسى اليهود ما حصل لهم في أوروبا من ملاحقة وترويع ووحشية، بل عملت على استغلال إرث المحرقة استغلالا عاطفيا مرضيا وألصقته بروح كل يهودي لتزرع أكبر قدر من الخوف والرفض والكراهية ضد كل ما هو غير يهودي. كما استخدمت التثقيف المدرسي والرحلات التراثية لإغراق الطلبة بصور الوحشية التي تعرض لها يهود أوروبا لكسب التأييد لعملياتها العسكرية ضد الفلسطينيين ودول المواجهة العربية، التي تتبنى قضية فلسطين كما حصل في مصر ولبنان وسوريا والعراق.

إن ما فعلته الصهيونية من استغلال المحرقة كإرث يهودي عاطفي للإبقاء على جذوة الفكرة الصهيونية متقدة، وتبرير الاعتداء على الشعوب الأخرى تبنته أيديولوجيات سياسية أخرى، من أجل خلق أديان ومذاهب وقوميات ليست في حقيقة الأمر إلا أحزابا وحركات سياسية متنكرة ومتطرفة، اعتمدت على استدعاء التاريخ المفجع والصادم وغرسه في الوعي العام للمجتمعات من أجل التلاعب بها، وخلق جماعات قومية أو دينية أو مذهبية متعصبة ومليئة بالغضب والكراهية وروح الثأر يكون هدفها الانتقام من أبرياء يشاركونهم الأرض نفسها والهوية الوطنية نفسها، ولكنهم صُوِرُوا لهم على أنهم الأعداء وقتلة الأسلاف. فالفواجع التاريخية تُستغل وتُستخدم من أجل خلق نوع من التضامن بين أفراد هذه الجماعات القومية، أو الدينية، لإثارة المخاوف والعداء والشك من أعداء مفترضين من المجتمع نفسه، أو من مجتمعات أخرى خارجية، بهدف حيازة السلطة وتعزيز النفوذ. فالكثير من الحركات الشعبوية في العالم تمكنت من حشد قاعدة شعبية قائمة على مظلومية مفترضة وعلى استغلال الحنين للماضي، أو للمجد المفقود أو للثأر لدماء الأسلاف المظلومين. هذه الأيديولوجيات السياسية، التي قد ترتدي رداء دينيا، أو رداء قوميا وعلى عكس ما هو متوقع، لا تريد للجروح أن تشفى وتندمل وتندثر، ولا تريد للأحزان والمآتم أن تنتهي ولا تريد للدموع أن تجف في المآقي، ولا تريد لأبنائها خلع ملابس الحداد، بل تعمل على إدامة رش الملح فوق جروح عفا عليها الزمن وطواها النسيان، منذ مئات، أو آلاف السنين وأصبح أبطالها عظاما نخرة. فالإرث الدموي العاطفي لكثير من الشعوب، قد أُمعِن في استغلاله من الأيديولوجيات السياسية للتلاعب بالشعوب والتحكم بها. وكانت السياسة المتبعة دائما هي سياسة إبقاء جروح الماضي مفتوحة تئن وتنزف، عبر إغراقها بالملح على مرّ السنين. كذلك حرصت هذه الأيديولوجيات السياسية على عدم تجاوز شعوبها للألم والصدمة، بل سعت إلى إبقاء هذا الوجع نارا مستعرة تؤجج الغضب والثأر، لحشد أكبر عدد من المعميين والمغفلين المتحفزين لخوض غمار معارك دموية عبثية طاحنة، لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
كاتبة من العراق



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *