الدوحة: “القدس العربي”:
قبل يومين من انطلاق كأس العرب FIFA قطر 2025، بدا سوق واقف وكأنه يعانق نبض البطولة قبل أن تبدأ المباريات. لا صخب المدرجات بعد، ولا صافرات الحماس في الملاعب، لكن الزحام البطيء والمنظم، ولون الأعلام المرفرفة، وابتسامات المشجعين الذين يلتقطون الصور في كل زاوية، كل ذلك يشي بأن الحدث قد بدأ بالفعل، في قلب العاصمة القطرية.
في زقاقٍ ضيق بين الأكشاك، حيث تتناثر التوابل والعطور والضوء ينعكس من الأسقف الخشبية، يلتقي المشجعون من مختلف الدول العربية في لوحة فسيفسائية من الألوان واللهجات. هنا يلتقي الحاضر بالماضي، والروح بالذاكرة، فتبدو السوق كأنها فضاء موسيقي بلا أصوات، موسيقى الأقدام والقلوب، ألحان تنتظر صافرة البداية لتكتمل.
ثلاثة أصدقاء، جاء كلّ منهم من بلد مختلف، يمثلون مساحةً رمزيةً من عالم الجمهور العربي. أسامة جردة، المغربي، وصل إلى الدوحة بعد رحلة طويلة، يحمل معه شعورًا بالحنين والفضول، كما لو كان كل شارع من شوارع السوق يحمل ذكرى مباراة قديمة أو أغنية شعبية رافقت مشهد احتفال في الدار البيضاء أو الرباط.
فؤاد القرالة، الأردني، لا يفارق دفتر ملاحظاته الصغيرة، يسجّل كل تفاصيل السوق، كل ضحكة طفل، كل تفاعل بين البائع والمشجع، وكأنه يحاول أن يفهم هذه الظاهرة الجماهيرية العربية قبل انطلاق المنافسات.
أما عبد العزيز القحطاني، السعودي، فيمضي بين الأكشاك حاملًا علم بلاده، متوقفًا أحيانًا لالتقاط صورة، وأحيانًا للانغماس في نقاش قصير مع مشجع آخر عن تشكيلة المنتخب أو لاعب مفضل.
الروائح تتماوج بين الحين والآخر، رائحة خبز مقلي، عطر التوابل، دخان القهوة العربية، ومزيج لا يُفسَّر إلا حين تندمج كل هذه العناصر مع صوت الخطوات، وضحك الأطفال، وابتسامات البالغين، لتشكل سيمفونية صغيرة قبل الانطلاق الكبير للبطولة.
تماهي الزمان والمكان
أسامة ينظر إلى سوق واقف وكأنه يقرأ نصًا قديمًا مكتوبًا على جدرانه، يقرأ في ضوء الشمس الذي يترنح على أكشاك السوق كل الذكريات التي حملتها المدينة منذ قرون. يقول بصوت منخفض، نصفه لنفسه، ونصفه لنا:
“المكان يشبه مباراة لم تبدأ بعد، كل شيء في حالة استعداد، كل روح في حالة توتر متوازن، والفرحة لم تتضح بعد لكنها موجودة.”
فؤاد يضيف وهو يلتقط صورة لمجموعة أطفال تلوح بالأعلام: “لا تحتاج البطولة إلى صوت المدرجات لتصبح حية. السوق هنا يسبق المباريات، يصنع الاحتفال قبل أن يعرفه اللاعبون.”
عبدالعزيز يبتسم، يرفع علم بلاده قليلًا: “الأمر أشبه بالتحضير لعرض موسيقي، كل واحد يعرف دوره، لا أحد يتقدم على الآخر، والجميع ينتظر اللحظة التي تبدأ فيها الموسيقى.”
سوق واقف ليس مجرد سوق، هو فضاء لتجربة جماعية، مساحة تجمع بين الماضي والحاضر، بين الفرد والجماعة، بين التقليدي والحديث. يتنقل المشجعون بين الأكشاك كأنهم بين السطور، يلتقطون صورًا، يشترون قمصان منتخباتهم، ويتبادلون الأحاديث حول اللاعبين والتكتيكات، كل ذلك في وعي جماعي هادئ، لكنه مشبع بالحركة.
الجماهير… بين الانضباط والشغف
في زاوية من السوق، يمكن ملاحظة مجموعة من مشجعي تونس والجزائر يتبادلون النقاش حول مباراة قديمة، بينما يضحك طفل يحمل علم قطر صغيرًا، ويقف بينهما وكأنه شاهد على التاريخ القادم. هنا يظهر التوازن بين الانضباط والشغف: الجميع موجود، الجميع مشارك، لكن لا أحد يرفع صوته فوق الحدّ، لا أحد يحاول فرض ذاته على الآخر.
أسامة وفؤاد وعبد العزيز يلاحظون هذا التماهي الجماهيري، ويتبادلون النظرات، وكأنهم يقرؤون سطرًا جديدًا في نصّ البطولة.
أسامة يصف الأجواء قائلًا: “الكل هنا يعرف أن البطولة تبدأ بعد يومين، لكن السوق قد بدأ فعليًا. المشهد أكبر من أي ملعب.” فؤاد يعلّق: “الأطفال هنا هم الجمهور الحقيقي، هم الذين يحملون الحماس بلا ثقافة ضاغطة، بلا توقعات، بلا قيود”. ويضيف عبد العزيز: “ونحن، نحن الكبار، مجرد مرافقين للبهجة. هنا، لا أحد يحتاج إلى جريدة ليعرف نتائج المباراة، السوق ينقل كل شيء”.
أصوات السوق… سمفونية غير مرئية
قد تتساءل: كيف يكون السوق صاخبًا وهادئًا في الوقت نفسه؟
الإجابة تكمن في وجود مستويات متعددة من الحركة: خطوات الأقدام، خرير الحديث، نغمات البائعين وهم ينادون على منتجاتهم، صدى موسيقى خافتة من أحد الأكشاك، وضحكات أطفال تتناثر بين الزوايا. كل عنصر يبدو بسيطًا، لكنه جزء من سيمفونية كبرى لم تبدأ بعد، وستستمر حتى صافرة البداية.
في لحظة ما، توقف أسامة أمام عارض للقمصان، وأمسك بواحدة عليها صورة المنتخب المغربي، وقال:
“أشتري هذا ليس فقط لأشجع بلدي، بل لأحمل جزءًا من السوق معي، جزءًا من الروح هنا.”
فؤاد التقط صورة للعارض وهو يبتسم، وعلّق: “الصورة لا تكفي، لكن الذكرى تبدأ من هنا.”
عبد العزيز ضحك: “أحيانًا، الكأس الكبرى تبدأ قبل المباراة، تبدأ باللحظة التي تلتقط فيها علمًا صغيرًا أو تبتسم لطفل.”
الفضاءات المصاحبة… من السوق إلى الميناء
ليس السوق وحده ما يحفظ هذه الروح، بل امتدادها إلى أماكن أخرى مثل ميناء الدوحة، حيث يستمرّ التفاعل الجماهيري في أجواء بحرية مختلفة. هنا تتجلى قدرة الجماهير على التكيف، على تحويل أي فضاء إلى مساحة احتفالية. العائلات تتجمّع قرب المتاجر البحرية، والمطاعم تطلّ على الماء، والموجات تعكس ألوان الأعلام، فتتحوّل المشهدية إلى عرض بصري يوازي المباريات قبل انطلاقها.
أسامة وفؤاد وعبد العزيز انتقلوا لاحقًا إلى الميناء، حاملين معهم شغف السوق نفسه. هنا، بدا الحوار أكثر عمقًا:
أسامة: “أشعر أن البطولة ليست في الملاعب فقط، هي هنا، في كل شارع، في كل ركن”. فؤاد: “والأطفال هنا هم صانعو الذكرى، حتى لو لم يشاهدوا المباراة بعد.” عبد العزيز: “نحن مجرد مرافقين للبهجة، وهذا يكفي لجعل البطولة حية”.
مشهد يسبق الحدث… تنظيم بلا صخب
ما يميز هذه المرحلة المبكرة هو التنظيم: الأمان واضح، الحشود متحركة، لا توجد مشاهد فوضوية، ولا ازدحام يعيق الحركة. كل شيء يبدو وكأنه مُهيأ لتدفق المشجعين لاحقًا، لتصبح السوق والمدن المحيطة منصة احتفالية جماعية، قبل أن تتحول الملاعب إلى قلب الحدث.
المسافة بين الأكشاك والأزقة ضيقة، لكنها تسمح للجميع بالتنقل، والحرص على توفير مساحات للأشخاص ذوي الإعاقة يعكس وعيًا مسبقًا، يجعل الحدث شاملًا للجميع. هنا يكمن التميز الحقيقي: الاحتفال قبل المباراة، والانضباط في نفس الوقت.
ذكريات ستبقى… قبل صافرة البداية
حين تغرب الشمس، وتختلط ألوان الأعلام مع ضوء المصابيح، يجلس أسامة وفؤاد وعبد العزيز في زاوية صغيرة قرب نافورة، يحتسون القهوة ويستمعون إلى أصوات السوق، وكأنهم يستعيدون تاريخ البطولة التي لم تبدأ بعد.
أسامة: “سنحمل هذا الشعور معنا إلى المدرجات”. فؤاد: “وسنحمله في صورنا وذكرياتنا”. عبد العزيز: “وكل هذا قبل أن تنطلق صافرة البداية”.
وفي هذه اللحظة، يدرك الثلاثة أن البطولة ليست مجرد مباريات، بل تجربة جماهيرية متكاملة، تبدأ من السوق، تتوسع في المدينة، وتستقر في الملاعب، لتصبح حدثًا عربيًا مشتركًا قبل أي شيء آخر.
السوق كصرح قبل الحدث
سوق واقف لم يعد مجرد سوق. إنه فضاء لتجربة جماهيرية قبل انطلاق المباريات، مساحة لتشكيل الذكريات، نقطة التقاء للهويات المختلفة، ومكان لتجربة الانسجام الجماهيري. أسامة وفؤاد وعبد العزيز، كما آلاف المشجعين الآخرين، يمثلون روح البطولة قبل أن تبدأ، يشهدون على قدرة الجمهور العربي على صنع الحدث خارج الملاعب، وعلى خلق حالة جماهيرية متفردة، حيث التماهي بين الحاضر والذاكرة، بين الفرد والجماعة، يصبح سيمفونية غير مرئية، موسيقى قبل صافرة البداية.
وفي غضون يومين، حين ترتفع أول صافرة، ستكون سوق واقف قد أكملت دورها: حفلة جماهيرية قبل الحفل الكبير، بداية لحكاية لا تنتهي مع البطولة، حكاية تبدأ من الأزقة وتستمر في المدرجات، حكاية ثلاثة أصدقاء، وآلاف المشجعين، وجميع ألوان الجماهير العربية التي اختارت الدوحة لتكون مسرحها.