بمعزلٍ عن التمعن في جماليات اللغة، ومن خلال الاكتفاء بالانثيال العاطفي المبرم، الذي يشيد من الرمال قصوراً من خيالٍ متين، يوطد الممر بين الأرض والسماء، يكتب الشاعر الكاريبي ديريك والكوت قصائده بمناغاةٍ ومناجاةٍ ضمنية، تشع من بلور إحساسه غزلاً مغنى ينهض بأحاسيسه إلى قممٍ متماهيةٍ لا تنهبها عين متطفلة، إذ يحمل جموحه المتواري في سدف الارتحال المونولوجي، ويضيع في فضاءاتٍ مترنمةٍ بالحب المستديم الذي يعطي من دون تكهنٍ أو تبرير.
ولأن والكوت نشأ على هوامش البحر، حيث يتأمل شطآنه دون أن يدرك ألغازه، فقد تدفقت كلماته كالأمواج المرتبكة، تصعّد وتيرة حركتها ثم تنطفئ في لولبيةٍ حسيةٍ مفرطة، بلا تصويبٍ دقيق، أو تقويمٍ سليم، بل إن الفوضى هي ما يبعث فيها الحياة والانغماس في لعبة الميثولوجيا البحرية التي لا تتغربل، أو تتحدد في فلسفةٍ أو ثقافةٍ معينة.
ولأنه لا يكتفي بالتوصيف والترسيف النصي، فقد انحلتْ ضفيرة قصيدته «بعد العاصفة» في تجويدٍ مرفئي، لينطلق في سجية المغزى من دون تركيز على تجميل اللغة، أو زخرفتها، فتبلورت على طبيعتها في حسنها الأصلي، تفوه بما لم يقتطعْه الوقت من هيكليتها المتينة. وتعرت من عقد التفكيك والتعريب، وتكتمت على شرور الكون لتفنيها، وتجاوزت حقائق تمحو الغموض، لتغرق في جسد التعبير، يقول فيها: «هناك الكثير من الجزر/ كثير من الجزر كنجوم الليل/ على تلك الشجرة المتفرعة، التي تهتز الشهب منها، كفاكهةٍ تتساقط حول رحلة المركب الشراع/. لكن يجب للأشياء أن تسقط/ هكذا كانت دائما/ الزهرة في يد، والمريخ في اليد الأخرى/ يسقطان/ وهما واحد/ تماما مثلما هي الأرض/ جزيرة واحدة بين أرخبيل النجوم/ كان البحر صديقي الأول/ والآن/ هو الأخير/ أتوقف عن الحديث الآن/ أعمل/ ثم أقرأ/ مسترخيا أسفل مشكاةٍ تتدلى من صاري المركب/ أحاول أن أنسى ما كانت تعنيه السعادة/ وعندما لا أفلح في هذا/ أدرس النجوم/ أحيانا، أكون أنا فقط، والرغوة الناعمة المتمايلة/ عندما يتحول سطح المركب إلى اللون الأبيض والقمر يفتح/ السحابة كبابٍ/ ونوره الأبيض فوقي/ طريق يأخذني إلى البيت».
يظهر اهتمام الشاعر بالجزيرة كعنصرٍ مكمل لبيئته، وكمصدر وحيٍ يضم عناصر البوح الداخلي الذي ينبجس من نبضٍ مرصدي، يلتقط كالرادار الجاحظ في الدقة كل المحركات الشاعرية كالليل والنجوم والمركب والسحابة والشجرة والشهب والزهرة، وكأنه يقوم بتشريحٍ مفصلٍ لقصيدةٍ تتنكب طريق الشعور السامي، وتحفز معترك الشاعر وتغربه مع نفسه، فيهيم مثل الطائر المحلق بلا جناحين الى ما يبصره كأطياف، لا الى ما هو واقعي جامد، وينال من الجو انبهاراً لا يتلفه شجن أو يعوجه طارئ فيزيائي مباغت.
وفي تأملٍ وجودي يعكس الفلسفة الظاهرية التي تأخذ الصيرورة والكينونة في منحى أبقراطي يحاكي الطبيعة والنفس للعلاج من تخوم اليأس، يكتب والكوت قصيدة «حب تلو الحب»، بأسلوبٍ وعظي وخبري، فيقول: «سيحين الوقت عندما ترحب مبتهجا/ بوصول نفسك إلى بابك/ وفي مرآتك/ سيبتسم كل منكما مرحبا بالآخر/ ويقول: اجلس هنا، كلْ/ ستحب مجددا ذاك الغريب، الذي كان نفسك/ امنحه الخمر، امنحه الخبز. رد قلبك إلى نفسه/ إلى الغريب الذي أحبك/طوال حياتك، الذي تجاهلته من أجل آخر/الذي يعرفك عن ظهر قلب/ أنزل رسائل الحب الموضوعة على رف الكتب/ الصور، التدوينات اليائسة/ قشر صورتك عن المرآة/واجلس، احتف بحياتك».
هذا الغناء الكاريبي الموزون، الذي لا يعرف التصدع والانفلات، يتهادى على وقع الطمأنينة النفسية الذاتية، التي تتخمر في وعاء القناعة والبساطة، وترشح للخارج سراً يتقن كيفية حب الذات وتنقيتها من القدر العابث، ومن التراكمات الخارجية الشاقة، فكل شيء يحتمل التلكؤ إلا لحظة اكتفاءٍ للروح، هي المرآة التي تطغى بروحانيتها على النفس، القلق، والقلم.
والكوت هو شاعر منمق في ذاكرته، يشحنها بالترابط الزمني والنفسي، يشحذها بتفاصيل الكون التي تشكل إنسانيته وجوهره، ويسلط حنينه على الآخرين، ليبرهن بأن الشاعر خلق من نورٍ ونار، ومن الصلصال والماء والهواء، لا يترك الزمن يعبر بخطاه دون التفات، فيصنع دميته من خيوط الشمس وترحال القمر ومزاجية البحر، لا حد لانفعالاته ولا راد لتهيؤاته، بوسعه أن يحول المجهول إلى معلوم، فيكثر من «ال» التعريف، ليسمي الجماد بصورته فتدب فيه الحياة الضاحكة. قصيدته تعني له أصل الحكاية والبداية والنهاية، وربما كرمته نوبل للآداب بسبب فضاءاته الملبدة بغيمٍ لا يلبث أن يضحك في وضح النهار الخريفي، لا يعرف التشظي والانكسار، يستجوب نفسه قبل الغير، ويستحضر سحره الممتزج بالإثارة النادرة، ولا يغفل عن التجويد الإبداعي لكل عملٍ يصيبه، يرفض الاستعمار الواقع على اللون والبشرة، ويعبر في عددٍ من قصائده عن جهل التحجر في عقولٍ سادرة، ويعلن بأن التجاهل للحزن خمر الحياة.
ومن النادر أن نجد شعراء يستقطبون الفرح المخفي بين وسائد اليقظة ليعمموه كانطلاقةٍ انسانيةٍ تمجد الحياة وتحترم الموت كنهايةٍ متزنة للجسد. وبين الترجيع النفسي والجسدي يلتف والكوت كالأغصان حول شجر البعث، فيغرق في الفردوس الخيالي للأمل، يقتفي صمت البراري ولغز التبويب الصارخ للحروف، ويصغي لصوت المجهول، ويجمع أزهاراً نادرةً لذاكرة الفطرة، ويثبت بأن الشعر هو وجه نوراني بحت لله والسماء والأرض.
كاتبة لبنانية