غزة- «القدس العربي»
من:
على أطراف بلدة خزاعة شرق خان يونس، يقف المزارع سليم أبو جامع على ما تبقّى من أرضه. كان ذات يومٍ يفاخر بأشجار الزيتون، التي تملأ الحقول، وبسواقي المياه التي كانت تنساب بين خطوط البندورة والفلفل. اليوم، لا يرى سوى طبقة رمادية من التراب المحروق، تتخللها بقايا شظايا معدنية، ورائحة غريبة تزكم الأنوف.
أرض عطشى ومزارع تنتظر المطر
يقول وهو يحدّق في الأفق البعيد: «كانت أرضي تعطي خيرها كل موسم… اليوم صارت كأنها جرح لا يندمل». حين يزرع فيها، لا ينبت شيء، وحين يسقيها تختنق التربة بالماء الراكد، الذي لا يجد طريقه إلى الجذور. «كأن الأرض نفسها صارت ترفض الحياة»، يضيف خلال حديثه لـ»القدس العربي» بنبرة يختلط فيها الحزن بالذهول. لم يكن سليم يدرك أن الحروب يمكن أن تقتل الأرض، كما تقتل الإنسان. كان يظن أن التدمير يطال البيوت فقط، حتى اكتشف أن الحرب حفرت في عمق التربة نفسها، وسرقت منها خصوبتها التي تراكمت عبر أجيال. اليوم، بعد عامين على «طوفان الأقصى»، يعيش سليم مع آلاف المزارعين المقتلعين من أراضيهم حالة فقدٍ مزدوج: فقد الإنسان وفقد التراب.
في خيمته المؤقتة على أطراف المواصي، يحتفظ بكيس صغير من تراب أرضه. «هذا كل ما تبقّى لي منها»، يقول وهو يمسك بالكيس كأنه طفل رضيع. أحيانا يفتحه ويشمه ليتأكد من أن الرائحة ما زالت هي نفسها، رائحة الأرض التي شبّ عليها، قبل أن تختنق برائحة البارود. فغزة، التي كانت تُعرف بخصوبة تربتها وامتداد بساتينها على طول السهل الساحلي، تحوّلت إلى مساحة متعبة من الرمل الملوّث والركام. آلاف الدونمات الزراعية جُرفت، والمياه الجوفية تلوثت، والهواء المحمّل بالدخان والرماد غطّى على رائحة الزهر والريحان. تلك هي ملامح «الحرب غير المرئية» التي لا تُقاس بعدد الشهداء، بل بعدد الأشجار التي ماتت بصمت، والحقول التي لم تعد تنبت سوى الحزن.
بعد مرور عامين على اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية، التي غيّرت ملامح قطاع غزة، لم تعد البيئة كما كانت. الأرض التي كانت تنتج أكثر من 400 ألف طن من الخضروات سنويا قبل الحرب، فقدت أكثر من 85% من قدرتها الإنتاجية، حسب الخبير البيئي الفلسطيني نزار الوحيدي. في كل مرة يُقصف فيها حقل أو تُجرف أرض، لا تنتهي الكارثة بانتهاء الصاروخ، بل تبدأ بعدها معاناة أعمق: تربة فقدت توازنها، ومياه اختلطت بالصرف الصحي، وهواء مفعم بالغازات السامة. لقد أصبحت البيئة ضحية صامتة لحرب لم تترك شيئا إلا ومرّت عليه. ومع أن العالم يتحدث عن إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية، إلا أن أحدا لا يتحدث عن «إعادة إحياء الأرض»، تلك التي تُعد الأساس لكل حياة لاحقة. بين الركام والمخيمات، يتنفس الناس هواءً ملوثا، ويشربون ماءً تسكنه البكتيريا والمعادن الثقيلة. وبينما تسعى مؤسسات قليلة إلى توثيق ما جرى، تبدو الصورة أكبر من أي قدرة محلية على الترميم. فالحرب، كما يقول الوحيدي، «لم تدمّر البنى التحتية فحسب، بل أعادت تشكيل النظام البيئي بأكمله».
التربة التي لم تعد كما كانت
يقول المهندس نزار الوحيدي إن «التربة في غزة تعرضت لأخطر أنواع التدمير»، ليس فقط بسبب القصف، بل أيضا بسبب عمليات التجريف والدكّ الممنهجة التي حوّلت الأراضي الزراعية إلى كتل صلبة غير قابلة للزراعة. «التجريف ودكّ التربة قضيا على النشاط الحيوي فيها»، يوضح الوحيدي لـ»القدس العربي»، مشيرا إلى أن المواد الكيميائية المستخدمة في القنابل والصواريخ ـ ومنها ما تأثر باليورانيوم المنضب ـ تركت آثارا لم تُدرس بعد بشكل علمي شامل بسبب استمرار الحرب. ويضيف: «لقد تحولت التربة من وسط خصب إلى وسط معادٍ للحياة. الأشجار أزيلت، والبكتيريا المفيدة ماتت، والحشرات النافعة اختفت، حتى الملوحة ارتفعت في بعض المناطق بنسبة تزيد عن 60% مقارنة بما كانت عليه قبل الحرب».
المزارع محمد قديح من شرق خان يونس، يقول، إن أرضه التي كان يزرعها بالبصل والبامية أصبحت بلا حياة. «كلما نزرع شيئا يموت خلال أيام»، يقول، وهو يلوّح بيده نحو مساحة رمادية اللون «حتى لون التراب تغيّر، ورائحته أيضا». يضيف لـ«القدس العربي»، أن محاولاته لاستصلاح الأرض فشلت رغم استخدامه كل ما تبقّى من سماد طبيعي. «كانت الأرض تبتلع السماد والماء بلا فائدة، كأنها صارت صحراء». ويتابع: «زمان كنا نعرف رائحة المطر أول ما تنزل، كنا نحس بأن الأرض تتنفس. اليوم، المطر نفسه صار كأنه يغسل رماد الحرب لا أكثر». محمد فقد نصف محصوله العام الماضي، والنصف الآخر لم يتمكن من جنيه بسبب القصف. لكنه يقول إن الخسارة الحقيقية هي أن الأرض نفسها «لم تعد تعرفه»، كما يقول.
الماء الذي أصبح سمّاً
أما عن المياه الجوفية، فيؤكد الوحيدي أنها تعرضت لتلوث واسع نتيجة مخلفات الأسلحة والصواريخ وتدمير شبكات الصرف الصحي وتكدس السكان في مناطق النزوح. «الحفر الامتصاصية (المراحيض) التي أنشأها النازحون قرب المخيمات سمحت بتسرب الفضلات إلى باطن الأرض، والنتيجة: تلوث الخزان الجوفي الذي يعتمد عليه أكثر من 90% من سكان غزة في الشرب والاستخدام المنزلي»، يوضح الوحيدي. ويتابع: «ظهر هذا التلوث في ارتفاع حالات التهاب الكبد الوبائي (A) واليرقان، وهي أمراض ناتجة عن المياه الملوثة. أما المياه العميقة فبقيت أقل تلوثا نسبيا، لكنها ليست آمنة».
يحكي خليل البرديني، أحد سكان دير البلح، أنه لم يعد يشرب من مياه الآبار منذ أشهر. «كنا نستخدمها للشرب والري، لكنها صارت مالحة ومرة، وأحيانا لونها متغير». يشير خليل خلال حديثه لـ«القدس العربي»، إلى أن الأطفال في المخيم يعانون من أمراض جلدية ومعدية، وأن «الأطباء قالوا إن السبب هو الماء الملوث». في إحدى الليالي، كما يروي، خرج يبحث عن ماء صالح للشرب لمسافة كيلومترات، ليجد أن كل الآبار التي يعرفها أصبحت غير صالحة. «صرنا نشتري الماء مثل الذهب، نحمله في جالونات صغيرة ونحافظ عليه أكثر من الطعام».
ويرى الوحيدي أن الكارثة لا تقتصر على المياه، بل تمتد إلى الهواء والنفايات التي تراكمت في كل مكان: «مكبات النفايات تحولت إلى بؤر أوبئة. نفايات طبية وزراعية ومنزلية وصناعية امتزجت معا، وأصبحت مرتعا للحشرات والقوارض والزواحف. هذه بيئة تولّد أمراضا وأوبئة طويلة الأمد، وتخلق ما يمكن وصفه بـ«حرب غير مرئية» ضد صحة الإنسان الفلسطيني وبيئته». ويقدّر الوحيدي أن 85% من الأراضي الزراعية خرجت عن الخدمة، وأن القطاع الزراعي بأكمله فقد توازنه. ويضيف: «نحن لا نتحدث فقط عن خسارة محاصيل، بل عن انهيار منظومة الأمن الغذائي بأكملها». ويختتم قائلًا: «السيناريو الأسوأ أن تستمر الحرب والحصار، عندها لن نكون أمام تدهور بيئي فحسب، بل أمام انهيار شامل لكل مكونات المجتمع. البيئة ليست هامشا، إنها العمود الذي يقوم عليه كل شيء».
يقول علي النباهين، وهو عامل نظافة نازح في خان يونس، إن النفايات أصبحت «جبالا من السموم»، مضيفا: «كنا ننقلها بالشاحنات إلى المكبات الشرقية، لكن الاحتلال يسيطر الآن على كل تلك المناطق. اليوم كل شيء هنا وسط الناس». يضيف لـ«القدس العربي»، أن الروائح في بعض الأيام «تخنق»، خصوصا حين ترتفع درجة الحرارة. «الذباب والبعوض يغطي الخيام، والأطفال يصحون بعيون منتفخة». ويوضح أن بعض الناس صاروا يحرقون النفايات قرب خيامهم للتخلص من الحشرات، لكن الدخان الناتج «أشد سمّية من النفايات نفسها».
انهيار بيئي شامل
يؤكد المهندس بهاء الأغا مدير عام التربة والمياه في وزارة الزراعة، أن «الحرب دمرت كل مقومات البيئة في غزة»، وأن «كل مكبات النفايات الصلبة كانت في المناطق الشرقية من القطاع، وهي الآن تحت سيطرة الاحتلال، ما اضطر الناس لإنشاء مكبات عشوائية في مناطق نفاذة وقريبة من المياه الجوفية والمخيمات». ويحذر من أن العصارة الناتجة عن هذه المكبات «تتسرب إلى باطن الأرض وتصل إلى الخزان الجوفي، محدثة تلوثا خطيرا يؤثر على صحة الإنسان والحيوان والنبات». ويضيف الأغا: «اليوم لا توجد جهة قادرة على مراقبة أو تحليل مستوى التلوث. المؤسسات البيئية والزراعية مدمرة بالكامل، والطواقم غير قادرة على الحركة». ويشير إلى أن «معظم المزارعين أصبحوا نازحين، لا يستطيعون الوصول إلى أراضيهم التي تقع ضمن المناطق المحتلة أو الخطرة». «عشرات الآلاف من المزارعين نزحوا من رفح وخان يونس إلى المواصي»، «وهذه مناطق ذات تربة رملية نفاذة جدا، ما يعني أن كل حفرة امتصاصية أو نفايات تُلقى هناك تذهب مباشرة إلى المياه الجوفية». ويتابع موضحا: «الأراضي الزراعية تحتاج إلى سنوات لإعادة تأهيلها. لا يمكن الحديث عن الزراعة دون وقود وآليات وبذور. لا توجد أسمدة، ولا شبكات ري، ولا مختبرات فحص».
وأدى فقدان الموارد الزراعية في غزة إلى ارتفاع أسعار الخضروات بأكثر من خمسين ضعفا. «البندورة التي كانت تُباع بشيكلين أصبحت بمئة شيكل»، يقول الأغا. ويضيف أن «أكثر من 90% من الأراضي الزراعية دُمّرت أو جُرفت أو تلوثت». ويؤكد أن الحرب لم تدمّر فقط النباتات، بل «دمرت الغطاء الأخضر بأكمله، ما ساهم في تفاقم ظاهرة التغير المناخي المحلي». ويرى الأغا أن أخطر ما في الأمر هو «اتجاه بعض المزارعين لاستخدام الحمأة (البراز الآدمي) كأسمدة بديلة، بسبب انعدام الأسمدة الكيميائية والطبيعية، وهو ما يشكل خطرا صحيا وبيئيا كبيرا». ويحذر من أن «الاحتلال يتعمد خلق انهيار بيئي شامل ليقتل الناس ببطء من خلال التلوث والأمراض».
تغير المناخ المحلي
ورغم أن تغير المناخ ظاهرة عالمية، إلا أن غزة، كما يقول الأغا، «أصبحت نموذجا مصغرا لكيف يمكن لحرب واحدة أن تغيّر المناخ المحلي». حرق الأشجار وتدمير الغطاء النباتي أديا إلى زيادة درجات الحرارة المحلية بنسبة طفيفة لكنها ملحوظة، خصوصا في المناطق الشرقية المكشوفة. كما أن الغبار والرماد الناتج عن القصف غطّى السماء لفترات طويلة، مؤثرا على جودة الهواء. ويرى الخبير المناخي الفلسطيني عقل أبو قرع أن «ما يحدث في غزة هو صورة مصغّرة لتبدّل النظم البيئية. الأرض فقدت الغطاء الأخضر الذي كان يساهم في تلطيف المناخ، والمياه الملوثة تبخّر مزيدا من الرطوبة السامة في الجو». ويضيف لـ«القدس العربي»: «حتى إذا توقفت الحرب، فإن البيئة في غزة ستحتاج لعقود كي تستعيد توازنها الحراري والطبيعي».
أشجار تموت وأمراض في كل خيمة
تقول أمينة النجار وهي مزارعة من شمال قطاع غزة: «كنا نزرع الزيتون، واليوم الأشجار ماتت كلها. حتى التي بقيت واقفة لا تثمر». تضيف لـ«القدس العربي»، أن «الدخان الذي غطى السماء لأشهر غيّر لون الأوراق»، وأن الرياح تحمل روائح غريبة تجعلها «تشعر بأن الهواء نفسه مريض».
في خيمتها في منطقة المواصي، تقول الممرضة منى السقا، إن الأطفال يعانون من أمراض جلدية وانتفاخات بسبب التلوث. «كل مياهنا ملوثة، حتى الماء الذي نغسل به الأواني»، تضيف لـ«القدس العربي»، مشيرة إلى أن «المرض لم يعد استثناءً، بل أصبح جزءا من الحياة اليومية».
الحرب في غزة لم تكن فقط معركة بين جيوش، بل كانت أيضا حربا ضد البيئة. لقد انقلبت دورة الحياة الطبيعية رأسا على عقب: التربة فقدت خصوبتها، المياه فقدت نقاءها، والهواء فقد صفاءه. المهندسان نزار الوحيدي وبهاء الأغا قدّما صورة متكاملة لواقع بيئي يوشك على الانهيار. كلاهما يتحدث عن انهيار شامل في المنظومة البيئية، حيث أصبحت غزة، كما يقول الوحيدي، «أرضاً تحتاج إلى خطة إنقاذ بيئية عاجلة قبل أن تصبح غير قابلة للحياة». لكن ما بين الأرقام والحقائق، يظل السؤال معلقا: من سيعيد لهذه الأرض حياتها؟ فبينما تهتم دول العالم بمؤتمرات المناخ والاحتباس الحراري، تموت في غزة بيئة كاملة بصمت. في كل حرب، هناك مشاهد واضحة ومباشرة: القصف، الدمار، الدماء. لكن في غزة، هناك حرب أخرى لا يراها أحد، تُشنّ على التربة والماء والهواء، وهذا ما يؤكده الوحيدي والأغا: «غزة اليوم لا تحتاج فقط إلى إعادة إعمار عمراني، بل إلى إعادة إعمار بيئي يعيد للتربة حياتها، وللماء عذوبته، وللهواء نسماته القديمة». وكما يقول نزار الوحيدي: «نحتاج إلى خطة استراتيجية لا لتجميل المشهد، بل لإنقاذ الحياة نفسها».