غزة- «القدس العربي»: في بيت متصدّع يقع في قلب مدينة دير البلح، تتكئ سعاد الزعانين الأربعينية، أمام قدر يغلي ببطء فوق نار واهنة. يداها المتعبتان تمسكان بالمغرفة وكأنها سلاح في وجه الجوع. تقول وهي تحرّك الطعام بعزيمة: «هذه ليست وجبة عادية، إنها معركة يومية ضد الحرمان». سعاد مثال لنساء كثيرات في غزة تحوّلن من ربّات بيوت عاديات إلى خط الدفاع الأول عن بقاء عائلات كاملة.
مطبخ الحياة
أطلقت سعاد على مبادرتها اسم «مطبخ الكرامة». من مطبخ صغير متواضع خرجت فكرة جماعية تُطعم أكثر من مئتي أسرة يوميا. رغم انقطاع الطحين وتراجع توفر الغاز، تُصرّ هي ومن حولها من النساء على الاستمرار، حتى لو أشعلن نار الحطب في فناء البيت. تبتسم رغم الإرهاق: «كل طبق يخرج من هنا هو رسالة تحدٍّ للحصار». ومع أن القصف يتكرر كل ليلة، فإنها لا تغيّب وجهها عن المطبخ. أكثر ما تخشاه أن تتوقف المبادرة، فهي ترى في عيون الأطفال المنتظرين سببا للاستمرار. هذه القصة ليست استثناء. فقد وثقت «القدس العربي» قصص عشرات النساء اللواتي سرن على خطى سعاد؛ بعضهن قابلات يساعدن الأمهات على الولادة في ظروف مروّعة، وبعضهن متطوعات يتحدين الحواجز العسكرية لإيصال الطعام، وأخريات يعملن في الإغاثة وهن يحوّلن الخوف إلى شجاعة يومية.
تجربة «مطبخ الكرامة» لم تكن وليدة اللحظة. وثائق أممية رصدت نشاط نحو عشرين سيدة في دير البلح، يشكلن خلية عمل متماسكة. منذ ساعات الصباح الأولى تبدأ المهمة: جمع التبرعات البسيطة من الأهالي، تقسيم المواد، وتوزيع الأدوار بين الطهو والتوصيل.
هدى مرتجى، إحدى المتطوعات، تقول: «أحيانا لا نملك سوى العدس والماء، وأحيانا نصنع وجبة كاملة من بقايا الخضار. المهم أن نمنح الناس ما يسد رمقهم». بالنسبة لها، لم يعد دور النساء مجرد طاهيات، بل «شبكة أمان تحمي المجتمع من الانهيار». الصعوبات يومية: غياب الوقود، مواقد غاز فارغة، والاعتماد على الحطب. لكنهن لا يتوقفن عن تعبئة الصناديق، وإيصالها إلى أكثر الأسر احتياجا.
تضيف سعاد: «حين تضيء ابتسامة وجه طفل جائع، نعلم أن معركتنا الصغيرة لم تذهب هباء». هذه التجربة دفعت نساء أخريات لإطلاق مطابخ مماثلة في مخيم الشاطئ وخان يونس. هكذا تحوّل الحصار إلى محفز لظهور قيادة نسوية مجتمعية، لا تحمل الألقاب، لكنها تصنع التغيير.
مقاومة بلا بنادق
وترى الناشطة هبة الزيان، أن ما يجري في مطابخ غزة أبعد بكثير من مجرد مبادرات إغاثة. تقول: «النساء لا يقدمن وجبات فقط، بل يمارسن فعلا أصيلا من أفعال المقاومة؛ يحمين حقهن في الحياة الكريمة». وتوضح أن هذه المطابخ الشعبية «غيّرت من طبيعة التضامن، فقد انتقلت من كونها مساحة خاصة للأسرة، إلى مؤسسة اجتماعية تخدم عشرات العائلات. النساء أوجدن أنماطا جديدة من القيادة في قلب المأساة، وحوّلن المطبخ إلى ميدان مقاومة». وتضيف: «الإصرار على الطهو، رغم القصف والنقص هو رسالة مضاعفة؛ بأن الجوع لن يفرض الاستسلام، وبأن إرادة غزة لا تختصر في المواجهات العسكرية فقط، بل تظهر أيضا في أواني الطعام وأصابع الأمهات».
ليست كل معركة نسائية تُخاض بين جدران المطبخ. هناك من يواجهن التهديد عند الحواجز العسكرية. تقارير حقوقية وثّقت كيف تتعرض المتطوعات للتفتيش والإهانة، وأحيانا يُترك الطعام ليتلف عمدا.
حياة شبير، شابة من خان يونس، تروي: «أوقفونا ساعات طويلة عند الحاجز حتى فسد الطعام. كان ذلك إذلالا مقصودا». وتضيف: «كثيرات فكّرن بالتوقف بسبب المضايقات، لكنني شعرت بأن الاستسلام هو ما يريدونه». مع ذلك، يبقى الخوف حاضرا في كل مرة تغادر بيتها. تختتم حياة: «لا أعرف إن كنت سأعود قبل الليل». الناشطة منى الكرد تصف هذه الانتهاكات بأنها جزء من سياسة ممنهجة: «المساعدات لا تُمنع فقط، بل يُستهدف من يحملها». وتوضح: «إطلاق النار على نساء يقفن في طوابير للحصول على الدقيق ليس حادثا عابرا، بل فعل متعمّد لتجويع المدنيين».
من جهة أخرى، تعيش نساء غزة اختبارا أشد قسوة: الولادة تحت القصف. القابلة جميلة الهبيل من مخيم جباليا، تروي كيف كانت ترافق النساء في المخاض بينما الانفجارات تهز الجدران: «كنت أرتجف، لكن كان عليّ أن أتماسك». وتتذكر يوما انقطع فيه التيار الكهربائي في المستشفى أثناء ولادة معقدة: «عمل الأطباء في الظلام حتى اشتغلت المولدات. لحظة خروج الطفل للحياة وسط العتمة لا تُنسى». جميلة ترى نفسها في موقع لا مجال فيه للانسحاب: «إن تركنا نحن القابلات مواقعنا، من سيبقى للأمهات؟». كثير من النساء يلدن اليوم في خيام أو بيوت مهدمة بعيدا عن المستشفيات، وهي وزميلاتها يحاولن التنقل لتقديم المساعدة.
ويؤكد تقرير حديث لمكتب «الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية» أن النساء يشكلن ما يقارب 70% من القائمين على المبادرات المجتمعية الطارئة، ما يعني أنهن العمود الفقري للاستجابة المدنية في غزة.
الناشط الحقوقي مصطفى إبراهيم يوضح: «لفهم معنى الصمود هنا، علينا أن نصغي للنساء. لولا أدوارهن لانفرط عقد المجتمع منذ زمن».
أما الباحثة أريج غنام فترى أن «تجربة النساء في غزة درس عالمي. وسط أسوأ الظروف، برزن كقائدات مجتمعاتهن». وتقول إن التحدي المقبل هو تحويل تلك التجارب من مبادرات طارئة إلى سياسات مستدامة. وتضيف: «من دون دعم رسمي وموارد ثابتة، ستظل هذه الجهود البطولية تدور في حلقة مغلقة».
إرادة لا تنكسر
زينب الغنيمي، مديرة «مركز الدراسات النسوية والقانونية» في غزة، تلخص المشهد قائلة: «على مدار العامين الماضيين أثبتت النساء أن الصمود ليس شعارا، بل ممارسة يومية». تعدد مشاهد عديدة: خبز على الحطب عند انقطاع الغاز، الوقوف في طوابير المياه الطويلة، تهدئة الأطفال المذعورين في الملاجئ.
وتضيف: «حتى غرف الولادة المؤقتة في المدارس، أو تحت الخيام كانت شاهدا على إصرار النساء على جلب الحياة وسط الموت. وفي المقابل، كثيرات واجهن الاعتقال أو المخاطر عند الحواجز. هذه الأدوار هي التي تحافظ على توازن المجتمع». وتختتم الغنيمي: «قصص النساء الغزاويات تؤكد أن الحرب لم تكسر إرادتهن، بل جعلتهن أكثر حضورا وتأثيرا. بفضلهن، تبقى غزة حيّة، وهنّ بطلاتها الخفيات».