لندن ـ «القدس العربي»: لعقود، اعتقد العلماء أن الوعي البشري ينشأ من أحدث أجزاء الدماغ وأكثرها تطوراً، لكن دراسة جديدة خلصت إلى نتيجة معاكسة تتعلق بالدماغ واكتشفت أن «الجزء القديم» هو المسؤول عن الوعي، وهو اكتشاف من شأنه أن يغير كيفية تعامل الأطباء مع أمراض الدماغ، وكيفية التعامل مع هذا الجزء من الإنسان.
ونقلت جريدة «دايلي ميل» البريطانية في تقرير اطلعت عليه «القدس العربي» عن أحد العلماء في جامعة «كامبريدج» قوله إن الأساس الجوهري لتجربتنا قد يكون متحكماً به من خلال بنية أكثر بدائية.
وفي مراجعة لأكثر من قرن من البحث العلمي، فحص عالم الأعصاب الدكتور بيتر كوبولا دراسات التحفيز، والتجارب على الحيوانات، وتقارير الحالات العصبية. وبناءً على هذه الأدلة الواسعة، يجادل الدكتور كوبولا بأن الوعي قد ينشأ من «دماغ السحلية» القديم.
وإذا كان هذا صحيحاً، فهذا يعني أن الوعي ليس سمة بشرية فريدة كما كان يعتقد العلماء سابقاً.
وفي مقال له في مجلة «ذا كونفرسيشن»، يقول الدكتور كوبولا: «هذه التقارير دليل قاطع يشير إلى أن أقدم أجزاء الدماغ ربما تكون كافية للوعي الأساسي. وبالتالي، قد يؤثر هذا بدوره على رعاية المرضى، وكذلك على نظرتنا لحقوق الحيوان».
وأضاف: «في الواقع، قد يكون الوعي أكثر شيوعاً مما كنا ندرك، حيث يُشبه الدماغ البشري إلى حد ما دمية روسية، حيث تقع أجزاؤه المتطورة حديثاً في الخارج، بينما تستقر أجزاؤه الأقدم والأكثر أساسية في المركز».
ويُعرف الجزء الخارجي من الدماغ، الذي تطور حديثاً، باسم القشرة، وهو المسؤول عن مهام معقدة مثل الذاكرة والتفكير والتعلم والاستدلال وحل المشكلات.
وفي حين أن المنطقة الداخلية، المعروفة باسم القشرة الفرعية، لم تتغير كثيراً على مدى أكثر من 500 مليون سنة من التطور، إلا أنه غالباً ما يُشار إليها باسم «دماغ السحلية»، وهذه المناطق البدائية مسؤولة عن مراقبة النبضات والأحاسيس الأساسية مثل الجوع والعطش والألم والمتعة والخوف.
وسابقاً، اعتقد العلماء أن أحدث مناطق القشرة، المعروفة باسم القشرة الحديثة، هي على الأرجح مصدر التجارب الواعية.
وكان يُنظر إلى القشرة الفرعية على أنها ضرورية للوعي، كما أن الكهرباء ضرورية لتشغيل التلفزيون، ولكنها ليست كافية لخلق الوعي بحد ذاتها.
ومع ذلك، يقول الدكتور كوبولا إن العلماء قللوا من أهمية أقدم مناطق الدماغ.
وبحث الدكتور كوبولا في نوع من التجارب يُسمى دراسة التحفيز، حيث تُستخدم الكهرباء أو المغناطيس للتدخل في أجزاء من الدماغ.
ويُنتج التدخل في القشرة المخية الحديثة تأثيرات قوية، بما في ذلك تغيير إحساسك بنفسك، أو التسبب في هلوسات، أو التأثير على حكمك، لكن التأثير على أنماط المناطق العميقة يُنتج تأثيرات أعمق.
ويقول الدكتور كوبولا: «يمكننا التسبب في الاكتئاب، أو إيقاظ قرد من التخدير، أو فقدان فأر للوعي. حتى تحفيز المخيخ، الذي لطالما اعتُبر غير ذي صلة، يُمكن أن يُغير إدراكك الحسي الواعي».
وكان هذا تلميحاً قوياً إلى أن المناطق الأقدم من الدماغ مهمة جدًا للوعي، ولكنه لم يكن كافيًا لإثبات أن دماغ السحلية وحده قادر على إنتاج الوعي. وللوصول إلى هذه النقطة، بحث الدكتور كوبولا في حالات تعرض فيها البشر والحيوانات لتلف أو إزالة أجزاء من أدمغتهم.
ويُحدث تلف القشرة الدماغية والقشرة الحديثة تغيرات في التجربة الواعية، لكن تلف القشرة تحت الدماغية والمناطق العميقة الأخرى غالباً ما يؤدي إلى فقدان الوعي تمامًا بالموت أو الغيبوبة.
والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو وجود حالات نادرة لأطفال يولدون بحالة تُسمى «استسقاء الدماغ»، والتي تُسبب فقدانهم لمعظم قشرتهم الدماغية. ويقول الدكتور كوبولا: «وفقاً للكتب الطبية، يجب أن يكون هؤلاء الأشخاص في حالة نباتية دائمة. ومع ذلك، هناك تقارير تُفيد بأن هؤلاء الأشخاص يمكنهم الشعور بالانزعاج، أو اللعب، أو التعرّف على الناس، أو إظهار الاستمتاع بالموسيقى».
وبالمثل، يُشير الدكتور كوبولا إلى عدد من التجارب «المتطرفة» على الحيوانات، حيث أُزيلت القشرة الحديثة جراحياً من الفئران والقطط والقرود. وحتى بدون هذا الجزء الحيوي المفترض من الدماغ، تمكنت الحيوانات من إظهار المشاعر، والعناية بأنفسها، وتربية صغارها، وحتى التعلم.
ويُشير هذا إلى أن القشرة تحت الدماغية وحدها كافية لإنتاج مستوى معين من التجربة الواعية. ومع ذلك، هذا لا يعني أن القشرة الدماغية والقشرة الحديثة لا تُضيفان شيئاً إلى وعينا البشري.
ويقول الدكتور كوبولا: «يبدو أن الأجزاء الأحدث من الدماغ – بالإضافة إلى المخيخ – تتوسع وتُحسّن وعينا».
وتأخذ هذه المناطق اللبنات الأساسية للوعي، وتُضيف إليها اللغة، والتفكير الأخلاقي، والشعور بالذات، والإبداع الذي يجعل الوعي البشري فريداً. وهذا يُفسر كيف يُمكن لثراء الوعي البشري أن ينبثق من هذه الأجزاء البدائية من آليات الدماغ. ولكن، إذا كان الدكتور كوبولا مُحقاً، فهذا يعني أن مستوى أساسياً من الوعي يُرجح أن يكون أقدم وأكثر انتشاراً مما كان يُعتقد سابقاً.