ظلت الشكوى الدائمة في كل مُناسبة سينمائية تشهدها القاهرة، هي عدم العناية بالأفلام القديمة، التي تُمثل تراثاً إبداعياً ثميناً وثروة طائلة، والخوف من فقدان تلك الثروة، بعد تلفها والعجز عن تعويضها بمئات الملايين من الجنيهات. تلك المشكلة المؤرقة تصدى لها مهرجان القاهرة السينمائي منذ عدة دورات فائتة، واستطاع بالفعل مُعالجتها، بعد إسناد مهام الترميم لخُبراء مُتخصصين، تمكنوا من إعادة الروح إلى مجموعة كبيرة من الأفلام التي أوشكت على التلف، وكادت الذاكرة السينمائية أن تفقدها إلى الأبد.
في البداية وقبل تدخل رئيس المهرجان الفنان حسين فهمي، لمُعالجة الأزمة كان المُضطلع بترميم الأفلام المصرية جهات أخرى عربية، فقد استطاعت فعلياً المُحافظة على جزء كبير من الثروة السينمائية المصرية، بعد ترميمها مُقابل حق استغلال الأفلام المُرممة وعرضها على الفضائيات المملوكة لبعض رجال الأعمال العرب، ولا بأس في ذلك بالطبع طالما أن النوايا سليمة والنتائج مُرضية. لكن ثمة إحساس بالغيرة على التراث الفني المصري انتاب عددا من السينمائيين، فتعالت صيحات المُثقفين تُطالب بضرورة أن يكون هناك مشروع مصري ـ مصري لعمل الترميمات اللازمة للأفلام الكلاسيكية، ولم يكن هناك أهم من مهرجان القاهرة السينمائي للقيام بهذه المهمة، باعتباره الكيان الرئيس المعني بحفظ وصون التراث الإبداعي العريق، إذ إن دوره لم يقتصر فقط على تنظيم الاحتفالات ومنح الجوائز وعرض الأفلام، بل إنه يتجاوز تلك الشكليات بكثير. وقد استجابت الهيئة الاستشارية العُليا للمهرجان ووضعت يدها في يد رئيس المهرجان، وشرعوا منذ عامين أو أكثر في عمليات الترميم، ونجحوا إلى حد كبير في إنقاذ عدد غير قليل من الأفلام المُصابة ببعض التلف.
وهنا لا بد أن نذكر الدور الذي قام به المركز القومي للسينما في وقت سابق، وأسفر عن حماية عدد آخر من الأفلام بعمل الترميمات اللازمة لها خلال الفترة التي تولى فيها الناقد الراحل علي أبو شادي رئاسة المركز، واستطاع إنقاذ واحد من أهم الأفلام، التي أنتجتها السينما المصرية في تاريخها، وهو فيلم لاشين، وبعد الترميم تم عرض الفيلم المذكور في حفل افتتاح المهرجان القومي للسينما، إبان دوراته الأولى، ومثّل ذلك في حينه إنجازاً عظيماً.
الآن وبعد مرور سنوات، والتنبه لخطورة الفقدان التدريجي لأجزاء من ذاكرة السينما المصرية، تجددت الدعوة مرة أخرى مُطالبة بالاستمرار في عمليات الترميم. ولعل كلمة رئيس مهرجان القاهرة السينمائي في حفل الافتتاح كانت لافتة إلى ما تم بذله من جهود لاحتواء المُشكلة الكُبرى بمُعالجة التلفيات ومحاولة القضاء على أسباب تلف الأفلام بطرق متطورة، عبر وسائل التخزين والصيانة الحديثة. ولأن المُشكلة تتمثل أساساً في سوء التخزين والإهمال، فقد تمت التوصية بضرورة عمل الدراسات العلمية الجدية للتوصل إلى أفضل وسائل التخزين وأساليب المُعالجة، تجنباً لتلف المزيد من الأفلام وفقدانها.
وفي طريقة لافتة اعتنت الفضائيات المصرية التي نقلت مراسم حفل افتتاح الدورة 46 لمهرجان القاهرة السينمائي، بتوجيه سؤال للضيوف من النجوم والشخصيات السينمائية البارزة حول أهم الأفلام القديمة التي يرغبون في ترميمها والمُحافظة عليها، فيما يُشبه الاستفتاء الجماهيري على مشروع الترميم. وحسب رأي كل ضيف وذائقته الفنية، جاءت الإجابات في هذا الصدد متنوعة ومختلفة. لكن رغم اختلاف وجهات النظر كان هناك إجماع على مبدأ حفظ الذاكرة السينمائية، بوصفها الذاكرة الوطنية الموازية لتاريخ الثورات والمعارك والانتصارات والشخصيات والأحداث، فالسينما من هذا المنظور هي الفن السابع الحاوي لكل الأحداث على اختلاف طبيعتها وأهميتها، ومن ثم فالمُحافظة عليها تُعد صوناً وحفظاً للتاريخ المصري كله بماضيه وحاضره.
لقد شمل مشروع الترميم السينمائي الكبير في مراحله الأخيرة عدة أفلام مهمة بلغت نحو 22 فيلماً، أجريت لها عمليات ترميم ناجحة، حدّثت شكل الصورة ومستوى الصوت فبدت الأفلام كأنها حديثة الإنتاج، من بين ما تم إنقاذه وتحديثه فيلم «بين القصرين»، «القاهرة 30»، «شباب امرأة»، «بداية ونهاية»، «قصر الشوق»، «زقاق المدق»، «خان الخليلي»، «الفتوة»، «اللص والكلاب»، «الزوجة الثانية»، «السوق السوداء»، «غروب وشروق»، «درب المهابيل»، «جعلوني مُجرماً:، «دعاء الكروان»، «ثرثرة فوق النيل»، «امرأة في الطريق» ومجموعة أخرى مُتميزة.
ولا شك في أن هذه الخطوة من جانب مهرجان القاهرة ستُضاعف من أهمية الحدث السينمائي السنوي الكبير، وتُجدد ثقة الجمهور فيه، لاسيما أنه المهرجان الدولي الرسمي المُعتمد، والمُصنف عالمياً في مرتبة مُتقدمة بين المهرجانات الكُبرى. وما يزيد من أهمية الترميم أنه تم بقرار مصري وبإجماع السينمائيين وبرؤوس أموال مصرية ساهم فيها الرُعاة الرسميين بالنسبة الأكبر، لإنجاز المهمة الوطنية التي يشعر تجاهها كل مصري مُحب للسينما والإبداع بالمسؤولية الشخصية.