بغداد التي رأيتها في مهرجانها السينمائي


بغداد – «القدس العربي»: ذهبتُ إلى العراق للمرة الأولى مدعوة لتغطية مهرجان بغداد السينمائي، وأنا أحمل مزيجاً متناقضاً من المشاعر. فالصورة التي كانت راسخة في ذهني عن بغداد هي صورة مزدوجة: من جهة، بغداد الشعر، بغداد المتنبي وأبي نواس، والعمارة، وعراق بابل وآشور ونينوى، والعصر العباسي الذهبي، وإرث الحضارة الذي شكّل وجهاً مضيئاً من تاريخ الإنسانية.
ومن جهة أخرى، بغداد الحاضر القريب المثقل بالحروب والعنف والدماء والانفجارات. بين هذين الوجهين، كان داخلي يعيش صراعاً صامتاً، رغبة جامحة في رؤية الأرض التي حلمت بها طويلاً، وخوفا دفينا من مفاجآت غير متوقعة.
لكن في النهاية، غلبت الحماسة على القلق، فقررت أن أزور بغداد وأشارك في مهرجانها السينمائي، لعلّني أرى كيف تصالح هذه المدينة العريقة بين ذاكرتها المثقلة وتطلّعها إلى مستقبل مختلف.
وصلت إلى بغداد في الرابعة فجراً، وكان الفجر يتسلل إلى المدينة بخطوات هادئة. الطريق من المطار إلى الفندق حمل لي أولى المفاجآت: لم أجد مشهداً للخراب كما أوحت الصور التي عشتها عبر نشرات الأخبار، بل على العكس، وجدت حركة عمرانية نشيطة، أبنية جديدة ترتفع، طرقا ممهدة بعناية، وحركة سيارات متفرقة حتى في هذا التوقيت المبكر. رأيت وجوهاً تسير مطمئنة على الأرصفة، وأحسست بأن المدينة تبعث برسالة مبكرة لي: «الحياة هنا لم تتوقف»، ومع كل كيلومتر يمر، كان يتبدّد شيء من القلق الذي رافقني قبل الرحلة.
أما المهرجان نفسه، فقد بدا لي كنافذة مشرعة على حلم جديد. كان برنامج الأفلام غنياً بشكل لافت، مع تركيز خاص على الأصوات العراقية الشابة. مخرجون في بداياتهم، يروون قصصهم عن وطنهم، عن السنوات القاسية التي طبعت حياتهم، وعن شغفهم بالسينما بوصفها وسيلة للتعبير والبقاء. إلى جانب ذلك، كان هناك حضور عربي ملحوظ، وأفلام مصرية فازت بالجوائز الكبرى، فيما حصلت بعض الأعمال العراقية على إشادات خاصة، غير أنّ القيمة الحقيقية لم تكن في الجوائز، بقدر ما كانت في تلك الطاقة الصادقة التي انعكست في وجوه صناع السينما العراقيين.
ما أسعدني في المهرجان أنّ العروض لم تُخصّص للصحافيين وحدهم، بل فُتحت للجمهور على حدّ سواء. وهكذا وجدت نفسي وسط قاعات ممتلئة بالكامل، لا مقعد شاغرا فيها. كان الحضور متنوعاً، عائلات مع أطفالها، شبابا في العشرينيات، شيوخا، نساء محجبات وأخريات بلا حجاب. الجميع جاء بدافع الرغبة في مشاهدة الأفلام والاستمتاع بها، والتعاطي مع تما حمله من قضايا وموضوعات.
أتذكر تحديداً عرض فيلم «أناشيد آدم» للمخرج العراقي عدي رشيد، وهو فيلم يحمل مدلولات عميقة عن العراق وماضيه وحاضره. ومع ذلك، جلست في القاعة بجوار عائلات كاملة وأطفال صغار يتابعون الفيلم بتركيز، يطرحون أسئلة هامسة على آبائهم كي يفهموا القصة، من دون أن يزعجوا الآخرين.
بعد انتهاء العرض، سمعت نقاشات جانبية بين الحاضرين، فيها فضول واحترام ورغبة في الفهم. كان مشهداً مؤثراً، جعلني أدرك أنّ عطش الناس للسينما والفن أعمق مما تصوّرت.
وخارج القاعات، لمست ذلك العطش في تفاصيل أخرى. استقللت سيارة أجرة إلى شارع المتنبي، ولاحظ السائق أنّني أتحدث بلهجة مصرية، أشرق وجهه وقال: «أنتِ من مصر؟ من بلد عادل إمام!» راح يسألني عن الممثلين والأفلام، يستعيد مقاطع من أفلام قديمة يحفظها عن ظهر قلب، ويروي لي كيف كانت الأفلام المصرية، حتى في أقسى أيام الحرب والعنف، المتنفس الوحيد الذي يخفف قسوة الأيام. لم يكن وحده؛ في كل متجر أو مقهى كنت أدخل إليه، كان يكفي أن يسمعني أحدهم أتكلم بالمصرية، حتى يبتسم بحرارة ويردد أسماء نجوم مصر الذين شكّلوا ذاكرة العراقيين. اكتشفت هنا أنّ السينما لم تكن مجرد وسيلة للترفيه، بل ملاذاً نفسياً، رفيقاً يومياً جعل الناس يشعرون بأنّ الحياة مستمرة. وهذا ما أكّده كثيرون ممن تحدثت إليهم: السينما كانت ملاذهم. على أشرطة الفيديو، على شاشات التلفزيون، عبر المحطات الفضائية، كانت الأفلام ملجأً صغيراً للهروب من ثقل الأخبار والانفجارات. لم تكن رفاهية، بل ضرورة، حاجة إنسانية تمنحهم القدرة على الاستمرار.
التقيت خلال المهرجان أيضاً بشباب عراقيين يحلمون بصناعة أفلامهم الخاصة. كانت لديهم رؤى واضحة وأفكار كبيرة، لكن هاجس التمويل كان يثقل كاهلهم. يسألون دوماً: «من أين نمول أفلامنا؟ كيف نجد داعمين؟» ومع ذلك، كانوا على وعي كامل بما يجري في السينما العالمية، يتابعون تياراتها الفنية ويأملون في أن يجدوا مكاناً لهم فيها. استعدادهم لصناعة أفلام منخفضة التكاليف إن لزم الأمر، يعكس إصراراً على أن تُروى الحكاية العراقية، مهما كانت الظروف.

وبقدر ما كان المهرجان مساحة للعرض، كان أيضاً احتفالاً بالحياة. قاعات السينما نفسها، التي كانت تُعرض فيها الأفلام المشاركة في المهرجان، كانت جزءاً من مركز تجاري كبير يعجّ بالزوار، بالعائلات التي تتسوّق وتتناول الطعام وتجلس في المقاهي.
داخل القاعات، كان المشهد احتفالياً، كان أطفال يتقاسمون الفشار، شباب يحملون مشروبات غازية، نساء من مختلف الخلفيات يجلسن مطمئنات يستمتعن بالفن. كان واضحاً أنّ الناس يشعرون بالأمان والفرح، وأنّ السينما هنا ليست نشاطاً نخبوياً، بل طقس اجتماعي يجمع الجميع. والأمر لم يقتصر على الجمهور، بل انعكس أيضاً على قائمة الضيوف. فالمهرجان دعا عدداً كبيراً من الفنانات والصحافيات الشابات. وجود هذا الحضور النسائي، داخل القاعات وخارجها، أضفى على الفعالية طابعاً أكثر ثراءً وأقرب إلى صورة مجتمع حيّ متنوع.
وبالنسبة لي كامرأة، كان لافتاً، أنني لم أشعر لحظة واحدة بعدم الأمان في بغداد. سرت في الشوارع وحدي بلا حجاب، ولم أواجه نظرات فضولية أو مضايقات. على العكس، أحاطني شعور بالطمأنينة والاحترام. لكن اللحظة التي اختصرت المهرجان كله بالنسبة لي كانت لقاءً صغيراً مع طفلة لم تتجاوز الثامنة من عمرها. كانت برفقة والدها، صحافي عراقي أخبرني أنّ ابنته خطت أولى خطواتها في حياتها، بعد أن كانت تحبو كرضيعة، داخل مهرجان القاهرة السينمائي قبل سنوات.
اليوم، ها هي تحضر مهرجان بغداد، تجلس في القاعة تسأل والدها بصوت خافت كي تفهم أحداث الفيلم، وترفض أن تغادر رغم شعورها بالجوع قائلة: «سأكمل الفيلم أولاً ثم آكل.» في عيني هذه الطفلة رأيت معنى المهرجان كله: جيلاً جديداً ينشأ على حب السينما، على الفضول والاكتشاف، على احترام الفن والرغبة في أن يكون جزءاً من الحياة. ولم تكن بغداد الثقافية محصورة في قاعات المهرجان. حين زرت شارع المتنبي، أحسست بأنني أسير في القاهرة القديمة: باعة الكتب، المقاهي الشعبية، الأطفال يشترون دفاترهم استعداداً للعام الدراسي الجديد، والمشهد العام مليء بالحيوية.
تزامن مهرجان بغداد السينمائي مع معرض بغداد للكتاب. العراق وبغداد يحتفيان بالسينما والكتاب والقراءة، ويضعان الثقافة في موضع الصدارة في بلاد تنهض وتنتصر للحياة بعد سنوات من الحروب. وخارج بغداد، زرت الكوفة والنجف وكربلاء، وكانت تجربة روحانية لا تُنسى. رغم أنني لست شيعية، وجدت في هذه المدن قدراً كبيراً من السكينة والصفاء الروحي، وشعرت بأنني أعيش نشوة روحية نادرة.
خرجت من هذه التجربة بانطباع راسخ: بغداد التي رأيتها لم تكن بغداد الأخبار المظلمة، بل مدينة تفتح ذراعيها للضيف بكرم، وتحتفل بالثقافة والسينما والكتاب.
لو أردت أن ألخص التجربة كلها بكلمات قليلة لقلت: فرح، وضيافة، وطيبة، ورغبة صادقة في العودة مجدداً. والرسالة التي أراد المهرجان إيصالها بدت لي واضحة: بغداد قوية، آمنة، تحتضن الفن والثقافة، وتقول للعالم إنّها مدينة حيّة تمضي نحو المستقبل بثقة. وفي رأيي، نجح المهرجان إلى حدّ كبير في أن ينقل هذه الرسالة، لا بالكلمات وحدها، بل بالمشهد الحيّ لجمهور ممتلئ بالحياة، ولطفلة صغيرة ترفض أن تترك مقعدها قبل أن ينتهي الفيلم.



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *