بشرى موسى صالح… تجديد الخطاب النقدي عبر بوابة الثقافة


تُعدُّ بشرى موسى صالح واحدة من النقاد البارزين في العالم العربي، حيث أسهمت في إرساء مفهوم النقد الثقافي من خلال أعمالها النظرية والتطبيقية. يعكس النقد الثقافي تحولا جذريا في طريقة تناول النصوص الأدبية والثقافية، حيث يخرج بالنقد من حدود النصوص الضيقة ليشمل جميع جوانب الثقافة. إنه لا يقتصر على قراءة النصوص فحسب، بل يسعى لفهم الثقافة التي أنتجتها، مما يتيح الكشف عن الأنساق الثقافية الكامنة. تتجلى أهمية النقد الثقافي في عدة جوانب. أولا، يتجاوز هذا النقد حدود النقد النصي ليكشف عن الأنساق الثقافية المضمرة. ثانيا، يتمتع بالشمولية ويرتبط بعلوم أخرى مثل علم الاجتماع والأنثروبولوجيا. ثالثا، يسهم النقد الثقافي في إعادة قراءة التراث بعين نقدية، ما يجعله أداة حيوية لفهم التطورات الثقافية.
تشير صالح في كتابها «بويطيقا الثقافة» إلى أن النقد الثقافي يمثل تحولا منهجيا يتطلب إعادة ترتيب الأفكار والمفاهيم النقدية. فهي تؤكد ضرورة انفتاح النقد العربي الحديث على النقد الثقافي، خاصة بعد استنفاد بعض المناهج التقليدية، حيث لم يعد لديها ما تقدمه. تقول: «النقد الثقافي ليس مجالا تأويليا للبنى الثقافية، ومنها الأدبية، وهو لا يعني، كما يحلو للبعض، عودة انكفائية رجعية إلى السياقات». تقدم صالح تأصيلا نظريا واضحا للنقد الثقافي، حيث عرّفته بأنه «نشاط أو رؤية أو ممارسة نقدية». وقد عملت على التمييز بين النقد الثقافي والدراسات الثقافية، حيث إن النقد الثقافي يركز على تحليل الأنساق الثقافية المضمرة في النصوص، بينما تدرس الدراسات الثقافية السياقات الاجتماعية والسياسية التي تؤثر على الثقافة.
أحد المفاهيم الأساسية التي ابتكرتها صالح هو «الوعي الواحد المتعدد»، الذي يشير إلى كيفية فهم الذات، من خلال الآخر. تمثل أن الذات لا تكتمل إلا من خلال الآخر، ما يجعل هذا المفهوم ضروريا في سياق النقد الثقافي. تقول صالح: «هذا الوعي الذي معناه الإحساس بالذات واستشعارها في معرفة الآخر؛ لأن الذات لا تكتمل إلا من خلال الآخر (المتعدد)». تؤكد صالح أيضا، أهمية الانفتاح على كل ما هو جديد، بشرط أن يتماشى مع الثقافة العربية. فهي تدعو إلى استيعاب الثقافات المختلفة في إطار الثقافة العربية، ما يسهم في تطوير النقد الثقافي ويجعله أكثر شمولية. وتشير إلى أن هذا الانفتاح قد يساهم في تصحيح المفاهيم المغلوطة عن المركز والهامش، ما يعزز من قدرة النقد الثقافي على تحليل الظواهر الثقافية المتنوعة. تضع صالح حدودا فاصلة بين النقد الثقافي ومناهج ما بعد الحداثة، مشيرة إلى أن الثقافة هي العلامة الفارقة بينهما. ترى أن النقد الثقافي يتشكل من اتجاهات متنوعة تجتمع في بؤر التعدد والاختلاف، ما يمنحه قدرة أكبر على استيعاب التنوع الثقافي. ترى صالح أن العديد من الأفكار التي يتداولها النقد الثقافي كانت موجودة مسبقا في منهجيات سابقة، خاصة في مرحلة ما بعد البنيوية، وقد استندت إلى الفكر الماركسي الذي اعتبرته مصدر إلهام لخطوط النقد الثقافي، لأنه يعزز من فكرة تغيب المركزيات والمهيمنات. تواجه رؤية النقد الثقافي تحديات، حيث يتهم بعض النقاد النقد الثقافي بالشعبوية أو الفوضوية، معتبرين أنه يتناول قضايا بعيدة عن النصوص. لكن صالح ترد على هذه الانتقادات بالقول: «نعد النقد الثقافي توظيفا للذاكرة الثقافية غير المباشرة للناقد التي من الممكن وصفها (باللاواعية)، لتحريرها من الوعي المقيد في التفكير». هذا الانفتاح على الثقافة الشعبية يجعل النقد الثقافي قادرا على تجاوز القيود التقليدية ويفتح آفاقا جديدة للفهم والتحليل. ترى صالح أن النقد الثقافي يجب أن يكون وسيلة لمواجهة التحديات الثقافية المعاصرة، ويجب أن يتجاوز مجرد تحليل النصوص إلى فهم السياقات الثقافية والاجتماعية التي تؤثر على هذه النصوص. وهذا ما يجعل النقد الثقافي أداة حيوية في العالم العربي، حيث يواجه العديد من التحديات المرتبطة بالتغيرات الاجتماعية والسياسية.
في الختام، تعكس رؤية بشرى موسى صالح للنقد الثقافي أهمية التفاعل بين الثقافات، وتفتح الطريق لفهم أعمق للتراث العربي. إن النقد الثقافي، كما تقدمه، ليس مجرد أداة تحليلية، بل هو فن يعزز من حضوره في الساحة العالمية. إن إسهاماتها في هذا المجال تعكس قدرة العرب، على مواجهة التحديات الثقافية المعاصرة، وتؤكد أن النقد الثقافي هو ركيزة أساسية لتجديد الخطاب النقدي العربي، في عالم متغير، يبقى النقد الثقافي ضرورة ملحة لفهم العلاقات المعقدة بين النصوص والثقافات، ولتطوير رؤية نقدية شاملة تعكس تنوع التجارب الإنسانية.

كاتب عراقي



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *