خلال أول جولة خارجية له بعد انتخابه في أيار/ مايو الماضي، اختار بابا الفاتيكان ليو الرابع عشر زيارة تركيا حيث الإسلام دين أغلبية السكان، وزيارة لبنان الذي يحتضن أكبر عدد من المسيحيين في الشرق الأوسط. ولم تكن دلالات هذين الموقعين خافية لجهة التوازنات الدينية والجيوسياسية التي تحكم الدبلوماسية البابوية منذ عقود، وابتداء من نهج اعتمده البابا يوحنا بولس الثاني على نحو خاص، خلال الفترة التي أعقبت تنصيبه سنة 1978 وحتى وفاته سنة 2005.
وفي الأصل كان البابا السابق الراحل فرنسيس هو صاحب المبادرة إلى تنظيم هاتين الزيارتين تحديداً، على سبيل متابعة النهج البابوي في القيام بجولات عالمية تستهدف تمتين الأواصر مع الطوائف المسيحية المختلفة، ومع الأديان التوحيدية، ومراكز القرارات السياسية والاقتصادية والأمنية الكبرى عموماً. وذلك لا ينفي خصوصية هذا المكان أو ذاك، في هذا السياق التاريخي أو ذاك السياسي أو الروحي، كما في زيارة تركيا لإحياء ذكرى مرور 1700 سنة على انعقاد مجمع نيقية الأول الذي اعتمد قانون إيمان موحداً لسائر المسيحيين، أو زيارة لبنان حيث يحتاج شعبه إجمالاً والمسيحيون منهم خصوصاً إلى تضميد جراح كثيرة معنوية ومادية في آن معاً.
ففي تركيا كان ليو الرابع عشر خامس بابا يزور البلد، وهذا رقم قياسي لا تحظى به سوى إيطاليا البلد المضيف للفاتيكان، ولا عجب في أن الممثل الروحي الأعظم للمسيحية الكاثوليكية حرص على اللقاء مع البطريرك برثلماوس زعيم 260 مليون مسيحي أرثوذكسي. كذلك اجتمع مع كبار ممثلي المسلمين، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلى جانب زيارة مواقع أثرية وتاريخية ذات مكانة خاصة لدى الديانتين التوحيديتين، ولم يكن مجرد ملمح مجاملة أنه خلع حذاءه خلال زيارة مسجد السلطان أحمد في اسطنبول.
كذلك مارس البابا بعض أنساق هذه «الدبلوماسية الناعمة» على امتداد زيارته إلى لبنان، فاجتمع مع ممثلي الأديان والطوائف والمذاهب في بلد يحفل بالتنوع الروحي، وزار مرفأ بيروت حيث وقع انفجار 4 آب/ أغسطس 2020 الذي خلّف 218 قتيلاً وأكثر من 6000 مصاب وألحق دماراً هائلاً في دائرة واسعة من المساكن والأبنية المجاورة. كذلك غرس البابا شجرة زيتون على نيّة سلام البلد، وخاطب المئات من شباب لبنان، وركع أمام ضريح القديس شربل، وتحدث مراراً عن المحبة والتلاحم والأخوة.
ولكن أول بابا أمريكي في تاريخ الفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية أحجم عن زيارة جنوب لبنان، حيث يقيم لبنانيون مسيحيون أيضاً، وتمارس دولة الاحتلال الإسرائيلي عدواناً دائماً ومفتوحاً، وتحتل أراضي لبنانية، وتواصل خرق اتفاقية وقف إطلاق النار، كما استبقت زيارة البابا باستهداف العاصمة بيروت واغتيال أحد قادة «حزب الله».
وبالطبع لم يكن منتظراً من البابا أن ينتقد الاحتلال الإسرائيلي علانية فيخرق قواعد «الدبلوماسية الناعمة» إياها، ولكن لعله كان مطالباً باستئناف سياسة تضامن مع لبنان وقطاع غزة اعتمدها سلفه، حتى إذا ظلت لفظية وفي حدود أضعف الإيمان.