أصيلة (المغرب) ـ «القدس العربي»: ضمن فعاليات الدورة 46 لموسم أصيلة الثقافي الدولي، نظم «منتدى أصيلة» بالتعاون مع «مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد»، عشية الثلاثاء، ندوة فكرية تحت عنوان «أفريقيا الأطلسية: نحو رؤية أفريقية متكاملة للفضاء الأطلسي».
وأوضح المتدخلون أنه في سياق إعادة التشكيل السريعة الجارية حاليا للتوازنات الاستراتيجية العالمية، تبرز الواجهة الأطلسية لأفريقيا كملتقى مصالح متقاطعة، تجمع بين قضايا الأمن، وديناميكيات الطاقة، والطموحات الجيواقتصادية، والتنافسات الجيوسياسية. ومن ثم، تقترح المبادرة الأطلسية الأفريقية، التي أُطلقت المغرب، نهجًا سياسيًا مبتكرًا، هدفه بناء قاعدة أفريقية للتشاور والتعاون في منطقة الأطلسي، قائمة على المصالح المشتركة والرغبة المشتركة في تعزيز التكامل. وتندرج هذه الديناميكية ضمن مجموعة أوسع من المبادرات الإقليمية، بما في ذلك مشروع خط أنابيب الغاز بين المغرب ونيجيريا، والمبادرة الملكية الرامية إلى انفتاح دول الساحل من خلال الوصول الاستراتيجي إلى المحيط الأطلسي.
وقال حاتم البطيوي، أمين عام «منتدى أصيلة»، إن العالم يشهد تغييرات كبيرة في توازناته السياسية والاقتصادية، مشيرا إلى أن الفضاء الأطلسي أصبح من أهم المجالات التي تتقاطع فيها مصالح كبرى تتعلق بالأمن والطاقة والتنمية. ولفت الانتباه أنه في الوقت الذي تتحرك فيه قوى دولية خارج أفريقيا بخطط واضحة، ما زالت الدول الأفريقية الأطلسية بحاجة إلى رؤية مشتركة تُعبر عن إمكانياتها الكبيرة. وهنا ـ يقول المتحدث ـ تبرز أهمية المبادرة الأطلسية للدول الأفريقية التي أطلقها العاهل المغربي محمد السادس، وأكد أن هذه المبادرة ليست مجرد إعلان، بل هي تصور عملي لبناء منصة للتشاور والتعاون بين دولنا، حتى يكون لنا صوت أفريقي جماعي في قضايا الأطلسي. وهي جزء من رؤية أكبر تشمل مشاريع كبرى مثل خط أنابيب الغاز المغرب–نيجيريا، والمبادرة الملكية لمنح دول الساحل منفذاً استراتيجياً إلى المحيط الأطلسي.
وأفاد بأن ندوة موسم أصيلة الثقافي فرصة للتفكير الجماعي من أجل الإجابة عن أسئلة من قبيل: كيف ننتقل من العمل الفردي إلى العمل المشترك؟ وكيف نبني تعاونًا جنوب – جنوب يفتح أمام القارة الأفريقية آفاقًا جديدة في مجالات الطاقة والبيئة والحوكمة البحرية وربط الموانئ؟
بناء قاعدة للتشاور والتعاون
وذكرت الوزيرة المغربية السابقة نزهة الشقروني التي تولت إدارة الندوة، أن «المبادرة الأطلسية الأفريقية» التي أطلقها العاهل المغربي تقترح بناء قاعدة للتشاور والتعاون، قائمة على مصالح مشتركة، مشيرة إلى هذه الدينامية تنسجم مع مبادرات إقليمية أخرى، مثل مشروع أنبوب الغاز المغرب ـ نيجيريا، ولكن أساسا تمكين بلدان الساحل من الولوج الاستراتيجي إلى المحيط الأطلسي.
وأوضحت أن النقاش يهدف الى مساءلة الأسس والطموحات والتحديات التي تطرحها «المبادرة الأطلسية الأفريقية»، بما في ذلك الشروط السياسية والمؤسساتية، الحوكمة البحرية، الضبط بين الموانئ، الاقتصاد الأخضر… والغاية هي تجاوز المنطلقات المجزأة واستكشاف تعاون جنوب ـ جنوب قادرة على التجديد والاندماج الأفريقي عبر البحر.
واستحضر السفير محمد لوليشكي في مداخلته التحولات الجذرية التي يشهدها الفضاء الأطلسي اليوم، في موقعه داخل الخريطة الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، حيث لم يعد مجالا بحريا يربط بين الضفتين الشمالية والجنوبية، بل أصبح ساحة للتلاقي والتمازج والتعاون في الآن نفسه. وفي هذا السياق، برزت فكرة أفريقيا الأطلسية كمفهوم إستراتيجي جديد، يدعو الى صياغة رؤية إفريقية متكاملة للفضاء الأطلسي، تتجاوز التصنيفات التقليدية، وتمنح القارة موقعا مؤثرا في المعادلة الدولية.
وأشار إلى أن أهمية المبادرة التي أطلقها العاهل المغربي تكمن في تكريس دور أفريقي متوسطي يمكن القارة من الانتقال من موقع المتلقي للقوالب والمعايير إلى فاعل قادر على بناء منصات إقليمية ودولية تصوغ التوازنات وتحدد اتجاهات المستقبل.
وأضاف أن هذه المبادرة جاءت في خضم تحولات إقليمية ودولية غير مسبوقة، تتسم بحالة من تآكل الثقة واهتزاز التحالفات وفرض أسبقية المصالح الضيقة على روح التآزر والتضامن والتعاون. ولم تعد الشراكات تقوم على التزامات ظرفية الأمد، بل تحولت إلى صفقات مشروطة تتأثر بتذبذب المصالح. «في ظل هذا المشهد، تتزايد الحالة لدى الدول المتوسطية إلى تهديد نفوذها بما يمكن أن يكون عليه دور أفريقي وأطلسي» يقول المتحدث.
وبعدما استحضر عددا من الإنجازات التي حققها المغرب خلال العقدين الماضيين، على المستويات الاقتصادية والصناعية والأمنية والإنسانية والدبلوماسية، قال لوليشكي إن التجربة المغربية راكمت جملة من الدروس التي يمكن الاستناد إليها لبناء رؤية أفريقية متكاملة للفضاء الأطلسي، مؤكدا أن المطلوب هو القدرة على بناء أسواق وبناء منصات إقليمية تمكّن دول القارة من تحويل قوتها الاقتصادية إلى عملة دبلوماسية فعالة. ومن هذا المنطلق، فإن الرؤية الأفريقية المستقبلية ينبغي أن تركز على تنسيق المبادرات بين الدول الأطلسية على غرار أنبوب الغاز مع نيجيريا وتعزيز الأمن الغذائي المشترك.
وختم الدبلوماسي المغربي مداخلته قائلا إن أفريقيا الأطلسية ليست مجرد امتداد جغرافي أو توصيفا جغرافيا جديدا، بل هي رؤية استراتيجية قادرة على إعادة صياغة التوازنات في المحيط الأطلسي، ومنح القارة الأفريقية دورا فاعلا وفعالا في مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين وإنجاح مبادرات اندماجية فعالة على غرار المبادرة الأطلسية التي أطلقها المغرب وتشارك فيها الدول الأفريقية المعنية بمسؤولية.
من جهته، أوضح الباحث طارق إيزرارن، أن القيادة والريادة تشكلان عاملًا حاسمًا في إنجاح مسار التعاون الأطلسي، خاصة في بعده الإفريقي. واستحضر في هذا السياق جهود العاهل المغربي للمساهمة في جعل أفريقيا فاعلًا رئيسيًا لا غنى عنه في صياغة مستقبل هذا الفضاء الاستراتيجي.
وأبرز أن المغرب، برؤيته الاستباقية، دافع باستمرار عن تمكين أفريقيا من صياغة حلولها بنفسها، بعيدًا عن التبعية، وذلك من خلال ثلاث مرتكزات أساسية: تعزيز التعاون جنوب ـ جنوب، وتكريس دور المغرب كصلة وصل بين القارة الأفريقية وباقي المناطق، ثم المضي قدمًا نحو تقاسم القيادة الأفريقية المشتركة لضمان إنجاح هذا المسار.
بعد ذلك، تطرق المتحدث إلى الدينامية المتنامية للاجتماعات الوزارية واللقاءات رفيعة المستوى، التي توزعت بين نيويورك، كاب فيردي، وموريتانيا، إلى جانب محطات مرتقبة في الكاميرون وبنين، مؤكدا أن هذه اللقاءات تهدف إلى إرساء عملية مؤسساتية منظمة تشمل وزراء الخارجية والعدل والأمن، وترتكز على ثلاثة محاور كبرى: السياسة والأمن لمواجهة التهديدات العابرة للحدود في منطقة الساحل؛ الاقتصاد الأزرق والطاقة والبنيات التحتية؛ والتنمية المستدامة.
وقال إن المغرب، بما يمتلكه من مشاريع استراتيجية مثل ميناء طنجة المتوسط، ومشروع ميناء الداخلة الأطلسي قيد الإنجاز، إضافة إلى أنبوب الغاز نيجيريا ـ المغرب، يبرهن على مكانته كفاعل أساسي قادر على تقديم قيمة مضافة قائمة على مبدأ رابح ـ رابح. ولفت الانتباه إلى أن هذه الرؤية الملكية تعدّ خطوة فارقة نحو بلورة مقاربة أفريقية مستقلة للتعاون الأطلسي، تحظى بتقدير واسع من الشركاء الدوليين.
الحلم الأطلسي الأفريقي
في مداخلته حول الرؤية الأطلسية المغربية، أوضح الباحث جمال مشروخ أن هذه الرؤية تقوم على مبادرتين ملكيتين متكاملتين: الأولى تهدف إلى تعزيز التكامل الاقتصادي لدول الساحل الأطلسي الممتد من المغرب إلى جنوب القارة، والثانية تخص تمكين الدول الأفريقية غير الساحلية – مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد – من الوصول إلى المحيط الأطلسي بما يفتح أمامها آفاقًا اقتصادية وتنموية جديدة.
وأكد المتدخل أن هذه المبادرات لا تمثل قطيعة مع ثوابت الدبلوماسية المغربية، بل هي امتداد طبيعي لنهج التعاون جنوب ـ جنوب، ولمسار عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، ولرصيده التاريخي في العمل الإفريقي المشترك. ومن هذا المنطلق، فهي تعكس منطق الاستمرارية لا الانقطاع، مع سعي واضح نحو إدماج البعد الاقتصادي والبنية التحتية في رؤية شاملة للتنمية.
وذكر جمال مشروخ أن فلسفة هذه الرؤية تستند إلى ثلاث ركائز أساسية: قوة البحر كمجال استراتيجي، حتمية الاندماج الإقليمي كخيار لا رجعة فيه، وأولوية التفكير في أفريقيا من زاوية الاقتصاد والازدهار، لا من زاوية التحديات الأمنية فقط. وهو ما يجعل المبادرة المغربية مشروعًا طموحًا يجمع بين الأمن والتنمية في إطار مقاربة متوازنة.
واختتم مداخلته بالتأكيد على أن تحقيق هذا «الحلم الأطلسي الإفريقي» يمر عبر التمثل الجماعية للمشروع من قبل كل الدول المعنية، وعلى أساس تعبئة مشتركة للوسائل والموارد، بما يحوّل المبادرة إلى قوة فعلية قادرة على إحداث تحول عميق في حاضر القارة ومستقبلها.
وقال إن المبادرة الأطلسية المغربية تمثل تجسيدًا عمليًا للرؤية الملكية الساعية إلى جعل أفريقيا فاعلًا أساسيًا في صياغة مستقبل الفضاء الأطلسي. واعتبر أن هذه الرؤية لا تنحصر في بعدها الجغرافي أو البحري فقط، بل تنفتح على أبعاد سياسية واقتصادية وأمنية، بما يتيح للمنطقة موقعًا متقدمًا في النظام الدولي.
وأوضح أن المغرب يقدم نفسه كفاعل مدمج، يسعى إلى ربط دول القارة الأطلسية فيما بينها من جهة، وربطها بمحيطها العالمي من جهة أخرى، مستثمرًا في ذلك موقعه الاستراتيجي ومشاريعه الكبرى مثل ميناء طنجة المتوسط، وميناء الداخلة الأطلسي، ومشروع أنبوب الغاز نيجيريا ـ المغرب. وأكد المتحدث أن هذه المشاريع ليست مجرد بنية تحتية، بل أدوات لخلق تكامل اقتصادي حقيقي يخدم مصلحة القارة برمتها.
كما شدد المتحدث نفسه على أن هذه المبادرة تأتي في انسجام تام مع الدبلوماسية المغربية التقليدية القائمة على التعاون جنوب ـ جنوب، وعلى نهج الشراكات «رابح ـ رابح»، بما يتيح لأفريقيا صياغة حلولها بنفسها بعيدًا عن منطق التبعية.
التكامل والاندماج
وكانت المداخلة الأخيرة للباحث إدريس العلوي البلغيثي الذي توقف عند إشكالية الفضاء الأطلسي الإفريقي، مبرزًا أن تحقيق الاندماج يواجه عدة مفارقات ومعيقات، من أبرزها هيمنة مقاربات تجزيئية وإقليمية ضيقة تُكرّس نوعًا من الإقصاء أو التهميش بدل الانفتاح على تكامل شامل. وأوضح أن هذه الوضعية تُعطّل نشوء هندسة اقتصادية ومؤسساتية متكاملة على المستوى القاري.
وأشار إلى أن المبادرات القائمة اليوم تعتمد غالبًا على صيغ وطنية أو ثنائية محدودة، مثل التعاون في مجال الأمن البحري أو مكافحة القرصنة، وهو ما يُنتج تعاونًا ظرفيًا لكنه غير كافٍ لتشييد إطار قاري منظم. واعتبر أن هذا الإقليمية المجزأة تقف عائقًا أمام بناء تكتل إفريقي أطلسي قادر على التفاعل مع الشركاء الدوليين من موقع قوة.
كما أبرز المتدخل أن المغرب يقدم نموذجًا بديلًا يقوم على الاندماج الإقليمي والتعاون الطاقي واللوجستي، مستشهدًا بمشاريع استراتيجية مثل أنبوب الغاز نيجيريا ـ المغرب وميناء الداخلة الأطلسي، وكذا التعاون في مجال الطاقات المتجددة مع عدد من الدول الأفريقية. وأوضح أن هذه المبادرات تعكس رؤية تسعى إلى جعل الأطلسي فضاءً للتنمية المشتركة، وليس مجرد مجال للتنافس الجيوسياسي.
وشدد على أن تجاوز هذه المعيقات يتطلب رؤية جماعية بعيدة المدى تعيد الاعتبار للبعد التاريخي للعلاقات الأفريقية الأطلسية، وتُرسّخ التكامل الاقتصادي والسياسي والأمني كخيار استراتيجي لا رجعة فيه.