في كل مرة يضع غيوم ميسو القارئ أمام لغز جديد، كأنه يختبر قدرته على الشك، على إعادة النظر في الأشياء التي كان يظنها ثابتة. تلك السمة تُكسب روايته نوعا من الحضور الفلسفي الضمني، فالقارئ، وهو يلهث وراء الخيوط المبعثرة، يجد نفسه أمام مرآة تذكّره بأنه هو أيضا ضائع في متاهة تشبه متاهة النص، وأنّ الحقيقة لا تُستخرج من الأحداث، بل من الطريقة التي نفكّر بها حيالها. إنّ ما يثير الإعجاب في ميسو، أنه يعرف كيف يقود القارئ في الظلام، من دون أن يضيّع أثره تماما. كل صفحة تُقترح كإشارة، وكل فصل يبدو كممر نحو ذاكرة خفية، نحو فكرة لم تكتمل بعد. غير أن هذه اللعبة الماكرة ـ لعبة الوعي الذي يطارد ذاته ـ يمكن أن تظلّ عالقة في دائرة الإثارة، إن لم تُفتح على بعدٍ تأمّلي أعمق، حيث يتحوّل الغموض من تقنية سردية إلى تجربة وجودية.
سؤال عن معنى الضياع
في رواية «فتاة المتاهة « الصادرة عن دار هاشيت انطوان ـ نوفل 2025 ترجمة سمر معتوق، أراد ميسو أن يختبر المسافة بين التشويق والفكر. فالرواية تُكتب كأنها سؤال عن معنى الضياع، عن قدرة الإنسان على أن يتماهى مع خيالاته، حتى يفقد ملامحه. ومن هنا تبدأ قيمتها المحتملة: ليست في الحدث وحده، بل في ما يُحدثه الحدث داخل القارئ من ارتباك، من استيقاظ حسيّ وفكري. فالمتاهة ليست مكانا خارجيا فقط، بل استعارة عن داخلٍ معتم، حيث تتداخل الذاكرة مع الخيال، والذنب مع الرغبة، والحقيقة مع الظن. ولعلّ هذا ما يجعل قراءة ميسو تجربة مزدوجة: فهي تُغريك بالسير إلى الأمام، بينما تدفعك في الوقت نفسه إلى الالتفات نحو الداخل. وبين هذين الاتجاهين ـ بين التشويق كحركة إلى الخارج والتأمل كعودة إلى الذات ـ تتشكل المسافة الحقيقية التي يُقاس بها عمق الأدب.
اللحظة الافتتاحية ـ عتبة رمزية
في بنية الرواية لا يبدأ السرد من النقطة التي يُفترض أن تبدأ منها الحكاية، بل من صدعها. تلك اللحظة الافتتاحية، المرأة الملقاة على قارب «لونا بلو»، في سكونٍ يوشك أن ينفجر، لا تعمل كمشهد إثارة فحسب، بل كعتبة رمزية: كأنها بداية الغرق في اللايقين. منذ اللحظة الأولى، لا يعود القارئ متفرجا على حدث، بل مشاركا في عملية انكشاف بطيئة لحقيقة متشظية. «نظرت إلى أعلى فرأت كتلة سوداء تحجب عنها الشمس. هيئة بشرية تنتصب فوقها، مرتدية بدلة غوص سوداء من النيوبرين. كان الشخص ممسكا بعصا معدنية خفيفة الوزن، أشبه بتلك التي تُذكى بها النار. كان رأسه ملفوفا بقناع قماشي، لكنها تمكنت من رؤية جزء كبير من وجهه. ما إن تعرّفت أوريانا إلى ملامح مهاجمها حتى استولى عليها الخوف وأدركت أن لا جدوى من المقاومة»
كل شيء في الرواية يتحرك داخل هذا الإيقاع المزدوج: انشداد إلى الخارج بحثا عن السبب، وغوص إلى الداخل بحثا عن المعنى. ميسو لا يسرد الحكاية كما تُروى عادة، بل ينسجها كما تُحلم: عبر تناقضات في الزمن، تحويرات في السرد، وتقاطعات بين ذاكرة وذاكرة مضادة. الزمن في الرواية ليس خطا مستقيما، بل شبكة من المرايا، كل وجه منها يعكس نصف حقيقة ويخفي نصفا آخر. هذه التقنية تمنح القارئ شعورا مستمرا بالتيه، ولكنها أيضا تضعه أمام سؤال أكثر جذرية: هل يمكن أن يُبنى الوعي الإنساني على سرد واحد؟ أم أن الحقيقة كحكاية، لا تكتمل إلا من خلال تكرارها بصيغ مختلفة؟
الغموض ليس هدفا
تبدو كل تفصيلة في البناء السردي محسوبة لخلق هذا الإحساس بالدوار الجميل: الانتقال المفاجئ بين الراويين، الخداع البصري في ترتيب الفصول، الحذف المقصود لبعض اللحظات التي يُعاد سردها لاحقا من منظور آخر. هذه اللعبة ليست مجرد براعة تقنية، بل تذكير بأن الذاكرة ذاتها حكاية تُروى وتُعاد صياغتها بلا توقف. في هذا المعنى، تتحول الرواية من حكاية غامضة إلى استعارة عن تجربة الوعي الإنساني حين يفقد توازنه بين ما عاشه فعلا وما يتخيله عن ماضيه. ومع ذلك، ثمّة خطر دائم يرافق هذا النوع من البنية: حين يغدو الغموض هدفا بذاته، يفقد النص قوته التأملية. المتاهة، مهما كانت مثيرة، تحتاج إلى مركز يبرّر وجودها. وفي «فتاة المتاهة»، لا يبدو هذا المركز واضحا دائما. فبين كل تحول سردي وآخر، يبقى السؤال معلقا: هل كل هذا التعدد في الأصوات يخدم الفكرة، أم يضاعف الزخرفة؟ وهل الارتباك الذي يعيشه القارئ، جزء من قصد فني، أم نتيجة إفراط في الحيلة؟
بنية التكرار
يستخدم ميسو في بناء متاهته أدواته المألوفة: ازدواج الشخصية، الذاكرة المنقوصة، الصديق الذي ينقلب إلى عدو، السر الذي يتعفن في الماضي حتى ينفجر في الحاضر. هذه العناصر، على كثرتها، تعمل مثل تروس دقيقة في آلة واحدة، لكنها تظلّ مألوفة إلى حدٍّ يجعل القارئ، في لحظة ما، يتوقع الدوران قبل أن يحدث. هنا، يصبح الخطر ليس في التكرار فقط، بل في فقدان المفاجأة بوصفها وعيا جديدا، لا مجرد حركة سردية. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هذه البنية، بكل ما فيها من تعقيد، تمتلك سحرها الخاص. فالرواية لا تُقرأ دفعة واحدة، بل تُستعاد، كما لو أن على القارئ أن يخرج منها أكثر من مرة ليجد طريقه إليها من جديد. هذه العلاقة التبادلية بين القارئ والنص، هي ما يمنح الرواية قيمتها الحقيقية: إنها ليست مجرد لغز، بل تمرين على الشك، على إعادة اكتشاف الحقيقة كحدث متجدد لا كجواب نهائي.
الشخصيات ـ كائنات متشظية
الشخصيات لا تُقدَّم بوصفها كائنات متكاملة، بل ككائنات متشظية، تعيش على حافة الوعي، محكومة بذاكرة مثقوبة وهواجس تتناسل من الفراغ. كأن ميسو لا يريد أن يصوغ شخصياته، لتمثل أدوارا درامية فقط، بل ليجعل منها انعكاسات متكسّرة لفكرة الإنسان الذي يطارد ذاته في المرايا. المحقّقة جوستين، على سبيل المثال، لا تعمل كمجرد محققة بوليسية تلاحق أثرا غامضا، بل كضمير قَلِق يلاحق معنى العدل ذاته. كل خطوة تخطوها نحو الحقيقة تُعيدها، في الوقت نفسه، إلى منطقة أكثر التباسا داخلها. إنّ التحقيق الذي تخوضه ليس في الجريمة بقدر ما هو في الوعي، في الشك الذي يسكن النفس، حين تكتشف أنّ الحقيقة التي تبحث عنها قد تكون خديعة صاغتها لتبرير هشاشتها. أما أوريانا، فهي ليست ضحية كما تبدو في البداية، بل كيان يختلط فيه الفقد بالاختراع. تعيش بين ما حدث فعلا وما تتخيله عن حياتها، كما لو أن ذاكرتها نفسها آلة لإنتاج الأساطير الصغيرة التي تمنحها سببا للاستمرار. فيها شيء من براءة الضياع، لكنها أيضا تشارك في نسج الخداع الذي تقع ضحيته. هذا التناقض هو ما يجعلها أكثر من مجرد «فتاة في متاهة»، إنها المتاهة ذاتها، الكيان الذي يختبر فكرة الهوية المراوغة: من تكون حين تفقد يقينك بما كنت؟
أما أديل، وبقية الشخصيات الثانوية، فهم أقرب إلى أشباح تتنفس داخل البنية السردية، حضورهم لا يقوم على الفعل فقط، بل على ما يثيرونه من ظلال فكرية: الخيانة، الغيرة، الإيمان بالعدالة، واللاوعي المظلم الذي يسكن العلاقات. ومع ذلك، فإنّ هذه الشخصيات لا تُمنح دائما عمقها الكافي. كثير منها يتحرك داخل حدود وظيفية محددة سلفا، كأنّ الكاتب يستعجلها لتؤدي دورها قبل أن تتفتح تماما ككائن حي.
السؤال الفلسفي المطروح
الرواية تطرح سؤالا فلسفيا من خلال نسيجها النفسي: هل يمكن للشخصية أن تعرف ذاتها حقا؟ أم أنها، مثل القارئ، تظلّ أسيرة رواياتها الخاصة عنها؟ فكل شخصية في هذا العمل تحمل في داخلها سردا موازيا لما يحدث في الخارج، سردا مكوَّنا من النوايا المخبأة، من المحاولات المستميتة لترميم صورة الذات. وكأنّ ميسو يهمس عبرها بأن الإنسان لا يعيش قصة واحدة، بل قصصا متداخلة، تُلغى وتُعاد صياغتها مع كل انكسار في الذاكرة أو الوعي، لكن هنا أيضا يبرز حدّ الخطر: فحين تبقى بعض الشخصيات معلّقة بين الرمز والدور، لا الجمال الرمزي يتحقق بالكامل، ولا الوجود الواقعي يُقنع. في لحظات كثيرة، نكاد نشعر بأن ميسو يحرّكهم كما يحرّك لاعب الشطرنج قطعه: بدقة محسوبة، ولكن ببرود يمنعهم من التوهج كأرواح حقيقية. ومع ذلك، يظل في هذا الاختزال بعدٌ دلالي خفي، إذ يُذكّرنا بأن البشر أنفسهم، في عالم ميسو، لا يملكون مصائرهم كاملة؛ إنهم يتحركون داخل متاهة سردية كبرى، كتبها أحد ما، ربما القدر، أو الذاكرة، أو الحلم، ويُطلب منهم أن يصدّقوا أنها حياتهم.
رواية «فتاة المتاهة» التي تقع في 315 وتتوزع على أربعة أجزاء وخاتمة، تنتمي إلى تلك الأعمال التي لا تكتمل إلا في ذهن القارئ. نجاحها وفشلها يتوقفان على الطريقة التي نقرأ أنفسنا من خلالها. من يبحث عن التشويق سيجده، ومن يبحث عن الفلسفة سيجد أطيافها، ومن يبحث عن الحقيقة سيُدرك أنه تاه في متاهة أخرى، أكثر عمقا: متاهة الوعي الإنساني ذاته.
تلك هي المفارقة الأخيرة التي تتركها الرواية: إن الفشل المحتمل فيها هو وجه آخر لنجاحها الحقيقي. لأن العمل الفني لا يُقاس بما يُقدّم من يقين، بل بما يُثيره من اضطراب جميل، وما يفتحه من فجوات في وعينا. وميسو، في هذه الرواية، يثبت مرة أخرى أنه يعرف كيف يصنع تلك الفجوات، حتى إن لم يملأها.
وُلِد الروائي الفرنسي غيوم ميسو عام 1974 في مدينة أنتيب الفرنسية، ونشأ على تخوم البحر والخيال. منذ بداياته، لم يكن ميسو مجرّد كاتب يسعى إلى الحكاية، بل صانع عوالم، يختبر هشاشة الواقع عبر فتنة الغموض. رواياته مثل «الصبيّة والليل» (2019)، «حياة الكاتب السريّة» (2020)، «الحياة رواية» (2021)، «مجهولة نهر السين» (2022)، و»أنجيليك» (2023). ليست مجرد أعمال تشويقية، بل خرائط للوعي الإنساني في لحظات ارتباكه. في كل نص، ثمة شخصيات تمشي على حافة الإدراك، تبحث عن معنى، وتكتشف أن المعنى ذاته متحوّل مثل الضوء. اليوم يحتل ميسو مكانة خاصة في الأدب الفرنسي المعاصر؛ فهو جسر بين الأدب الشعبي والفكر التأملي. يجمع بين بساطة السرد ودقّة البناء، بين الدهشة السينمائية والهمّ الفلسفي الكامن تحتها. النقاد يختلفون حول تصنيفه: أهو كاتب جماهيري، أم كاتب رؤيوي؟ لكنه، في النهاية، يثبت أن الرواية يمكن أن تكون مسرحا للغموض وللجمال في آن واحد، وأن التشويق، حين يُكتب بوعي هو أحد وجوه الفلسفة الحديثة.
كاتب عراقي