تسفي برئيل
“لقد أرسلنا رسالة تهنئة إلى جميع البنوك الدولية، بدأنا بالاحتياطي الفيدرالي. ونؤكد لهم عودتنا إلى النظام المالي الدولي وتطلعنا إلى علاقات تجارية بعيدة المدى”، هذه هي الرسالة التي أرسلها محافظ البنك المركزي في سوريا، عبد القادر حصرية، الخميس الماضي. النظام السوري برئاسة أحمد الشرع، يأمل بأن يكون هذا بداية عهد جديد تصبح فيها سوريا أرض الفرص.
في اليوم نفسه، تم إبلاغ سوريا بقرار رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، بريان ماست، المعارض المتشدد لرفع العقوبات عن سوريا حتى الآن، بالموافقة على رفع العقوبات عنها. واشترط ماست موافقته على أن ينص التشريع على إمكانية إعادة فرض العقوبات على سوريا إذا لم تف بالتزاماتها. وربما يصوت مجلس النواب الأمريكي في بداية كانون الأول القادم على الموافقة النهائية على رفع العقوبات، ما سيفتح أنبوب تدفق الأموال إلى سوريا على مصراعيه، الذي تراكمت تعهدات مدهشة عند مدخله؛ فقد وعدت السعودية باستثمارات تبلغ 6 مليارات دولار، وتنقل قطر الآن كميات من النفط والغاز، ووقعت الإمارات على اتفاقات بمبلغ 800 مليون دولار لإعادة الإعمار وإدارة الموانئ في سوريا في البحر المتوسط، والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي مستعدان بالفعل لتقديم مساعدات كبيرة لخطة إعمار سوريا.
تقديرات البنك الدولي لحجم الأضرار التي لحقت بسوريا في فترة الحرب الأهلية تبلغ حوالي 215 مليار دولار
لكن سوريا تظهر الآن مثل هاوية لا قرار لها. تقديرات البنك الدولي لحجم الأضرار التي لحقت بسوريا في فترة الحرب الأهلية تبلغ حوالي 215 مليار دولار. رغم أنه مبلغ أقل مما تم تقديره قبل سنة فقط، لكنه ما زال مبلغاً كبيراً يتطلب ليس فقط فتح الخزينة الدولية، بل يقتضي أيضاً استعداداً مناسباً من قبل سوريا. مثلاً، سيتعين على سوريا إجراء إصلاحات جذرية للبنية التحتية المالية كلها، يشمل إعادة بناء النظام المصرفي الذي كان يدار في عهد الأسد كجهاز صراف آلي خاص بعائلته، واعتماد تشريعات تتلاءم مع المعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال والشفافية في إنفاقها، وبناء آلية رقابة حكومية وغير حكومية لنشر المناقصات وتحويل الأموال؛ لمنع الإخفاقات التي اتسمت بها مئات المليارات من المساعدات التي حصل عليها العراق وأفغانستان بعد حرب الخليج. في ذلك الوقت، تسربت أموال ضخمة للجيوب الخاصة بدون رقابة وإشراف.
نظام الشرع ملزم أيضاً بسن تشريع ورقابة في مجال حقوق الإنسان وحقوق الأقليات، وترميم جهاز القضاء الذي يعمل الآن بالحد الأدنى، وإجراءات لاستيعاب 6 ملايين لاجئ سوري يعيشون الآن في تركيا، ولبنان ودول أوروبية، واستيعاب 2 مليون لاجئ سوري في داخل الدولة.
سوريا الآن دولة هشة حصلت على ترخيص دولي لإعادة الإعمار، ولا توجد منطقة واحدة في البلاد إلا وتحتاج إلى إعادة اعمار جذرية. ولعل وضع جهاز التعليم المثال الأبرز على هذا التحدي. في كانون الأول 2024 عندما تم إسقاط نظام الأسد على يد مليشيات الشرع، قدرت وكالات الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية بأن أكثر من 2.4 مليون طفل لا يذهبون الى المدارس، وأن أكثر من مليون طفل معرضون لخطر التسرب من المدرسة.
بعد مرور سنة تقريباً على سيطرة النظام الجديد على البلاد، لم يتحسن الوضع بشكل كبير. وفقاً لتقارير إعلامية سورية، تعاني المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة التي تشكل 60 في المئة من مساحة البلاد، من نقص يقدر بنحو 80 ألف معلم. ونصف المدارس مدمرة بالكامل أو غير صالحة للتعليم، لا سيما عند بدء فصل الشتاء ونقص التدفئة. الآن، يتم دفع جزء من رواتب المعلمين، ويجبر كثيرون منهم على العمل اليدوي لزيادة الدخل. معظم المدارس تنقصها الكتب الدراسية والدفاتر والقرطاسية، ما يجبر الآباء على شرائها من راتبهم القليل. هذا إذا كان لهم دخل.
وزارة التعليم في سوريا حاولت حل المشكلة من خلال تطبيق يمكن طلاب الابتدائية من تنزيل الكتب الدراسية. ولكن في مناطق واسعة في البلاد ينقطع الإنترنت أو لا تتوفر الكهرباء الكافية لتشغيله، ما يجبر الآباء على طباعة الكتب على نفقتهم الخاصة.
قدمت قطر يد العون في الشهر الماضي، حيث وزعت 680 ألف كتاب دراسي. ولكن هذه الكتب لم ترسل إلا إلى محافظة إدلب وحلب وشمال سوريا. وتركيا من ناحيتها ستساعد في إدارة وتنظيم جهاز التعليم بما يلبي متطلبات سوق العمل.
بعيداً عن مسألة الميزانيات المطلوبة لتمويل النشاطات الجارية في نظام التعليم، فقد ورثت إدارة الشرع نظاماً تعليمياً غير موحد من حيث المنهاج. ففي المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، تم تطبيق منهاج تعليمي وضعه وأملاه حزب البعث الحاكم. في المقابل، ساد نظام تعليمي مستقل في المناطق الكردية شمالي البلاد، وكانت المواد التعليمية تختلف عن مواد النظام، بينما طبق في محافظة إدلب، التي كانت تحت حكم “حكومة الإنقاذ الوطني” التابعة لهيئة تحرير الشام، مناهج تعليمية إسلامية تختلف عن النظامين الأخرين.
في كانون الثاني الماضي، سارع النظام إلى “تطهير” المناهج التعليمية من وجود نظام الأسد، حيث أزيلت صورة القائد والشعارات التربوية التي تمجد أعماله، وتم إلغاء دروس التاريخ التي تصف “الاحتلال العثماني” والنشيد الوطني ودروس “التربية الوطنية”. هذه إجراءات معروفة في الدول التي كانت فيها ثورات، لكن لم يتم بعد ملء مكان المحتوى القديم المحظور، بمحتوى جديد، عصري ومهني، يربي الجيل الضائع من الطلاب السوريين.
هكذا، في حين أن شق الشوارع وبناء آلاف البيوت وإعادة بناء جهاز الصحة المنهار وإنشاء بنية تحتية حديثة للاتصالات أو توفير الكهرباء بانتظام، تبدو كلها مشاريع تحتاج ميزانيات ضخمة، لكنها لا تثير الخلافات الأيديولوجية. في المقابل، سيكون تصميم جهاز التعليم وصياغة المناهج التعليمية هما المعيار الذي سيختبر فيه التوجه الأيديولوجي الذي ينوي النظام قيادة البلاد نحوه. من المتوقع حدوث صدامات صعبة بين التيارات الأيديولوجية حول هذه الأمور. والاختبار الحقيقي ينتظر النظام.
سيتم الآن فحص النجاح السياسي المدهش الذي حققه الشرع وبنى حوله غطاء سعودياً وتركياً وقطرياً، وخاصة أمريكياً، الذي منحه الشرعية الدولية والدعم المالي. هذا النجاح تحت المجهر الآن لمعرفة لمن سيعزو الرئيس السوري الفضل السياسي الذي حصل عليه، وإلى أي درجة ينبغي منحه الثقة. نتنياهو الغاضب من أن الشرع “عاد منفوخاً من واشنطن وبدأ يفعل أموراً لن توافق عليها إسرائيل”، هو المؤشر الأبرز على عدم الثقة بالنظام السوري الجديد. حديث نتنياهو لا يقتصر فقط على مسألة الترتيبات الأمنية التي لا تحرز المفاوضات بشأنها أي تقدم حالياً، بل يمكن تفسير أقواله أيضاً بأنها تعبير ساخر عن عدم جديته، وربما عن غباء ترامب الذي وقع في شرك العسل الذي نصبه له الشرع عندما سارع إلى سحب لقب “الإرهابي الجهادي” عنه. قد يكون ترامب جاهلاً وساذجاً في الأمور “الإسلامية”، لكن يصعب التشكك في هذا الأمر لدى السعودية والإمارات؛ فموقفهما الحازم ضد الإسلام المتطرف والتنظيمات الإسلامية المتطرفة معروف، ومن المستبعد أن تدعم من تخشى من إقامته لدولة إسلامية في سوريا، التي لن تشكل فقط تهديداً لإسرائيل، بل لكل المنطقة.
هذه الدول، تضاف إليها تركيا ذات الطموحات الاستراتيجية في سوريا ولا تنبع من أيديولوجيا دينية، قدمت لترامب ضمانات على حسن سلوك الشرع، وتقدمها بشكل غير مباشر لإسرائيل أيضاً. هذه الدول يقلقها أيضاً سؤال ما إذا ستؤول سوريا إلى دولة إسلامية دينية أو دولة تكنوقراط، حتى لو لم تتضمن الديمقراطية، بسبب عامل الخوف من النظام في الساحة الدولية. هذه الدول، مثل الولايات المتحدة، تعترف بأن خطاب الشرع وحده غير كاف لتبديد عامل الخوف هذا. عليه توفير اثباتات عملية بواسطة السياسة الداخلية، ومناهج التعليم، وتشريعات وكبح الجهات المتطرفة، وهي التي ستحدد درجة الثقة التي يمكن وضعها في الترتيبات الأمنية التي سيتم التوصل إليها مع النظام، أكثر من أي اتفاق سيتم التوقيع عليه معها.
هآرتس 23/11/2025