الختيار أبو عبد الرحمن… رجلٌ يشيخ في الدوحة وقلبه يشيب في القدس


“القدس العربي”: قبيلَ أن تنتصفَ شمسُ الدوحةِ فوقَ أبراجها، وفي ساعةٍ يختلطُ فيها وهجُ النهارِ بحفيفِ الريح، كان الختيارُ أبو عبد الرحمن يجلسُ عند طرف مقهى قديمٍ في سوق واقف، كأنّه حارسٌ لزمنٍ مضى ولم يرضَ أن يبتعدَ عنه.

نظراته كانت تعبر بين الحاضر والغائب، بين مدينةٍ تلمع حجارتُها بحداثةٍ لا تهدأ، ومدينةٍ أخرى يعلو عليها غبارُ التاريخِ والوجع: القدس.

كان الرجلُ، بملامحه التي تُشبه صخور الواد المقدسي، يمدُّ نظره نحو السماء، كأنّه ينتظر أن تهوي عليه غيمةٌ تحمل صوت أذان من باب الساهرة، أو صدى خطوات كانت تملأ زقاق السلسلة في طفولته. وإذا ما مرّ عابرٌ وسلم عليه، ردّ بابتسامةٍ تُشبه ابتسامة من يخبّئ في قلبه ألف حكاية ولا يريد أن يفصح عن واحدة منها.

شيخوخةٌ في الدوحة… وقلبٌ يشيبُ في القدس

كان أبو عبد الرحمن قد جاء إلى قطر منذ أربعة عقودٍ تقريبًا. جاء لا يحمل إلا حقيبة صغيرة وبعض الصور في جيب قميصه، صورًا لبيته في حارة الواد، وأخرى لأمّه وهي تجلس على العتبة وتقطّب ثوبًا مطرّزًا بخيوط لم ينسَ ألوانها حتى اليوم. كان يظنّ أنّ غربته ستكون قصيرةً، سنةً أو سنتين، ثم يعود. لكنّ السنوات جرت كما يجري السيل، لا أحدَ يوقفه، ولا أحدَ يعرف أين تستقرُّ مياهه.

ورغم أنّ الرجلَ صار واحدًا من أبناء الدوحة، يعرف طرقها وأسواقها وأهلها أكثر مما يعرفُ بعضُ القطريين أنفسهم، إلا أنّ قلبه ظلَّ يقف عند باب العامود، كما قال مرّة وهو يرفع فنجان القهوة ونظراتُه معلّقةٌ بنقطةٍ بعيدةٍ لا يراها أحدٌ سواه:

“أنا مقيمٌ هون… بس قلبي؟ قلبي واقف قدّام باب العامود من أربعين سنة.”

حين تغيّرت البلاد… ولم يتغيّر الحنين

لم يكن الختيارُ يخافُ من الغربة، بل كان يخافُ من تغيّر المدينة التي تركها. يشبّه الأمرَ دائمًا بشتوةٍ مفاجئةٍ في وادٍ مهجور: لا تدري كيف تبدأ، ولا كيف تنتهي، ولا كم تتركُ من الفقدِ في الطريق.

كان يسمع أخبار القدس كأنها أخبار روحه. بيت هُدم، متجر أُغلق، زقاق طُمست ملامحه. وفي كلّ مرّةٍ يسمع فيها خبرًا من تلك الأخبار، كان يغمض عينيه لحظة، ثم يقول بصوتٍ خافتٍ:

“البلد اللي تركتُها… مش هي البلد اللي بشوف صورها اليوم.”

وفي زياراته القليلة للمدينة، كان يشعرُ بالغربة أكثر مما يشعرُ بالأمان. الأزقةُ نفسها، لكنّ الوجوه تغيّرت. الأبواب نفسها، لكنّ الأرواح خلفها ليست تلك التي كان يعرفها. يقول:

“ترجع على بيتك… بتلاقيه هو هو. بس بتحسّ حالك ضيف. الوجع هون… مش بالغربة.”

الدوحة… مدينةٌ أعادَت تشكيل روحه

ومع ذلك، كان لأبو عبد الرحمن قصةٌ أخرى مع الدوحة، قصةٌ تحكي عن مدينةٍ احتضنتْ رجلًا جاءها متثاقل القلب، فرأت فيه ما لم ترهُ مدنٌ أخرى: رجلًا يخبّئ بلادًا كاملةً في صدره.

بنى بيته في الدوحة كما تُبنى البيوت في نابلس والقدس: على مهلٍ، بحنانٍ، وبذكرياتٍ تُغرسُ في الجدران قبل أن تجفّ الإسمنتات. داخل البيت، علّق صورًا للبلدة القديمة، وأحضر سجادةً من فلسطين، ووضع راديو عتيقًا يعملُ كلَّ فجرٍ على إذاعةٍ فلسطينية، كي يبدأ يومه بصوت بلدٍ لم يغادره يومًا.

وعندما يدخل الضيفُ بيته، يظنُّ أنه في بيتٍ مقدسيٍّ من خمسينيات القرن الماضي: فناجين صغيرة، صينية نحاسية، صورٌ بلون الرماد، رائحة قهوةٍ ممزوجةٍ بالهال تُشبه رائحة المقاهي القديمة عند باب السلسلة.

قال مرةً وهو يشيرُ إلى الجدار:

“هذا البيت مش سكن. هذا ذاكرة… وإذا الفلسطينية ما لمّ البلد معاها، بتموت.”

طقوسُ الصباح… وتلك الزيتونة

كان الختيارُ ينهض قبل الفجر، كما كان يفعلُ في القدس. يصنعُ قهوته بيده، ثم يخرجُ ليسقي شتلة زيتونٍ صغيرة زرعها عند مدخل البيت. يضعُ يده على جذعها ويمسح عليها كما يُمسح على طفلٍ مريضٍ في ليلةٍ باردة.

“هذه الشجرة”، كما يقول، “هي ابني البكر. بزرع فيها روحي.”

بعدها يجلس دقائق طويلة، ينظر نحو السماء، كأنّه ينتظرُ من الغيم أن يفتح له نافذةً صغيرة يرى منها قبة الصخرة.

الأعيادُ… حين يصبح الحنينُ طقسًا مقدّسًا

في الأعياد، كان بيته يتحوّلُ إلى قطعةٍ من فلسطين. الخبزُ، والكعك، وطابون صغير يحضّر فيه العجين المحمّر كما كانت أمّه تفعل. الأطفالُ يركضون كأنهم في باحات الأقصى، والضيوفُ يقولون إنهم يشعرون لحظة دخول البيت وكأنهم في البلدةِ القديمة.

لكنّ الختيارَ كان يعرفُ أن للعيدِ رائحة لا يجدها هنا، مهما حاول.

“بالقدس العيد إله ريحة… هون بنصنع الريحة بإيدينا، بس بتضل ناقصة.”

لماذا لم يعد؟

كان الناس يسألونه دائمًا: ليش ما بترجع للقدس خلاص؟

فيبتسم، كمن يعرف أن السؤال أبسط من الحقيقة، ثم يقول:

“الوطن مش بس أرض… الوطن ناس. هون في ناس حبتني. وقطر عطتني ستر. كيف بطلع من مكان أعطاني حياة؟”.

ثم يضيف بصوتٍ أعمق: “بس القدس… هي روحي. والروح ما إلها بديل.”

ذاكرةُ رجلٍ يعيش بين مدينتين

في كلّ مساء، كان يجلس قرب النافذة، يرى الأبراج تضيءُ على امتداد الكورنيش، ويسمعُ هدير السيارات تحت بيته. لكنّه، في نفس اللحظة، كان يسمعُ من مكانٍ آخر صوت بائعٍ ينادي: “كعك… كعك قدسي طازة!”.

تلك هي حياةُ أبو عبد الرحمن: قدمٌ في الدوحة… وقلبٌ في القدس. زمنٌ يمشي فيه صباحًا، وزمنٌ آخر ينام معه ليلًا. رجلٌ يعيشُ في مدينتين في اللحظة نفسها، ولا يخونُ أيًّا منهما.

زيارة “القدس العربي”… عندما يتحوّل البيت إلى بوابةٍ بين عالمين

عندما زرناه في بيته عند المدخل الغربي للدوحة، وجدنا وراء بوابةٍ حديثةٍ بيتًا آخر تمامًا. بيت مُفصّل على مقاس ذاكرة رجل عاش نصف عمره هنا، ونصفه هناك. بيت فلسطينيٌّ خالص، كأنّه حجرٌ من حجارة القدس قُلع ووُضع في قلب الخليج.

استقبلنا بضحكةٍ تنضحُ بالترحاب، وقال: “تفضلوا… البيت من برّة قطري، بس من جوّا واقف بحارة الواد.”

دخلنا، فرأينا المشاهد التي رواها لنا من قبل: صور البلدة القديمة، رائحة القهوة، الراديو العتيق، السجادة النابلسية، المصاحف القديمة التي ورثها عن أبيه.

كان يتجوّل بين الغرف وهو يحكي، وكأن كلّ قطعةٍ في البيت هي بابٌ لذكرى.

وجع المدينة… ووجع الفقد

وعلى الرغم من كلّ الحنين، كان أكثر ما يؤلمه هو تغيّر المدينة من دونه. كان يقول بحزنٍ يتدلّى من صوته:

“الغريب مش اللي بطلع من بلده… الغريب اللي بلده بتتغير كل يوم وهو مش قادر يشوف.”

وفي آخر زيارةٍ له للقدس، وقف عند باب الخليل طويلًا. رأى بائعين جددًا، ووجوهًا لم يعرفها، وبعض الأبنية التي تغيّرت. هزّ رأسه وقال:

“الباب هو الباب… بس الروح مش هي الروح.”

ومع ذلك… كان يجد في قطر ما يمنحه حياة.

كان يقول دائمًا: “قطر بلد عطتني أمان. وهاد الأمان بيعلّم الواحد يحبّ المكان.”

كان يحدّثنا عن الجيران، عن رمضان، عن الزيارات، عن أهلٍ وجدهم هنا ولم يتوقّع أن يجدهم.

ويضحك وهو يروي:

“علّمت الجيران القطريين ياكلوا المقلوبة صح!”.

بين الأمان والمعنى

في ليل الدوحة، عندما تُطفأ أنوارُ البيت، كان الختيار يجلس في صمتٍ يشبه صلاةً خاصة لا يعرفها أحدٌ غيره. ينظر إلى السماء، كأنّها خيطٌ يصل بين مدينتين، بين عمرين، بين قلبين.

ويقول: “قطر هي أماني… والقدس هي معاني. والإنسان بعيش بين الأمان والمعنى. وهي حياتي.”

ثم يبتسم كمن أنهى حكايةً طويلة، ويضيف: “ولحد ما ييجي اليوم اللي قلبي يرجع فيه ينام تحت شجرة زيتون… هون بيتي، وهون عمري.”

وهكذا يمضي الختيار… رجلٌ يشيب في الدوحة، وقلبه يشيب في القدس.



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *