تيلوغيت: الكلمات ليست ضرورية للتواصل بين حمو وابنه إبراهيم في جبال الأطلس الكبير المغربية حيث يعيشان على الرعي، إذ يكفيهما الصفير الذي يمثل تراثًا ثقافيًا مهددًا بالاندثار بفعل التمدن.
يقول راعي الماعز حمو عمراوي البالغ 59 عامًا مازحًا، إن هذه الطريقة في التواصل هي “هاتفنا الخاص”.
ويؤكد الرجل، وهو رب أسرة تعيش في قرية نائية في منطقة تيلوغيت في جبال الأطلس الأوسط في وسط المغرب، “نتعلم هذه اللغة بشكل طبيعي… كتعلّمنا للمشي أو الكلام”.
من جانبه، يوضح نجله إبراهيم البالغ 33 عامًا، وهو أيضًا راعٍ، أنّ “هذه اللغة تسهّل التواصل في ما بيننا خصوصًا عندما نحرس قطيعنا”.
يحل الصفير محل كلمات اللغة، وهي الأمازيغية بشكل رئيسي في هذه المنطقة الجبلية، ويجعل التواصل ممكنًا على مسافة تصل إلى 2.5 كيلومتر أو ثلاثة كيلومترات.
ويوضح: “مبدأ هذه اللغة بسيط، فهو يقوم على كلمات تُلفظ بالصفير، ومفتاح الفهم يكون عبر الممارسة”.
تؤكد الباحثة في التراث فاطمة الزهراء صالح أن طريقة التواصل هذه “كنز” تراثي، مشيرة إلى أن هذا الأسلوب لا يزال معروفًا حتى اليوم في جبال الأطلس الأوسط في ولاية بني ملال-خنيفرة، من دون أن تستبعد اعتماده في مناطق أخرى من المملكة.
وثمة نماذج مماثلة له في المكسيك والبرازيل وجزر الكناري الإسبانية المجاورة للمغرب وتركيا واليونان والكاميرون وجنوب إفريقيا وتايلاند ولاوس وبابوا-غينيا الجديدة.
ويقول الباحث في اللسانيات والبيولوجيا الصوتية جوليان ماير إن “أكثر من 90 لغة منطوقة تتوافر بنسخة الصفير، ووردت في مقالات علمية متخصصة”.
ظروف صعبة
يتعين المشي نحو ساعة ونصف الساعة في طريق وعرة تغطيها أشجار البلوط، لغياب طريق معبّد، قبل الوصول إلى قرية إمزيري، حيث تعيش أسرة عمراوي.
تضم القرية نحو خمسين بيتًا متواضعًا لا تصلها المياه ولا الكهرباء، وهو ما اضطر بعض سكانها إلى النزوح، في حين تواجه لغة الصفير التي ترتبط بالرعي في الجبال خطر الاندثار.
في عام 2024، بلغ معدل الفقر في مقاطعة أزيلال، حيث تقع هذه القرية، 17 بالمئة، ما يمثل ضعف المتوسط الوطني، رغم تحسن ظروف العيش بشكل كبير خلال السنوات العشر الأخيرة، بحسب المندوبية السامية للتخطيط.
تلخص عائشة إيكن (51 عامًا) الوضع قائلة: “منطقتنا جميلة، لكننا نعيش معزولين في ظروف صعبة (…) وقد فضّل عدد كبير من جيراننا الرحيل”. وتستخدم إيكن لغة الصفير منذ الصغر.
في المقابل، يستمر آخرون في التشبث بأرضهم والمحافظة على هذه اللغة ونقلها إلى الأجيال المستقبلية.
من هؤلاء الطفل محمد (12 عامًا) الذي يقول إن استخدام الصفير “كان صعبًا في البداية، إذ لم أكن أفهم كل شيء، لكن بعد عامين أصبح الأمر أسهل”.
محمد هو الابن الوحيد لإبراهيم عمراوي، ويحلم بأن يصبح طيارًا.
يقول والده، الذي أسس سنة 2022 جمعية لحماية هذا التراث: “كان من المهم لي أن يتعلم ابني هذه اللغة، حتى لو مارس مهنة أخرى”، موضحًا أن هدفه هو “الحفاظ على لغة الصفير”.
التغير المناخي
بالإضافة إلى التغيرات التي طرأت على نمط الحياة، تساهم التقلبات المناخية أيضًا في “اختفاء لغة الصفير تدريجًا”، وفق جوليان ماير.
بين خريف 2024 وربيع العام الحالي، اضطر حمو وابنه إبراهيم إلى مغادرة القرية للمرة الأولى بحثًا عن موارد لحوالي 250 رأس ماعز، على بُعد 350 كيلومترًا باتجاه الجنوب الشرقي، بسبب تداعيات الجفاف الذي يعانيه المغرب منذ سبعة أعوام.
ويقول حمو: “كان التنقل صعبًا، لكن لم يكن أمامنا خيار آخر، إذ لم يعد لدينا ما نطعمه لمواشينا”.
وتؤكد فاطمة صالح أن “التغيرات المناخية أربكت نظام الحياة المتمحور على الرعي، إذ اضطر السكان للترحال للمرة الأولى في حياتهم”.
تُجري الباحثة منذ عام 2020 دراسة عن لغة الصفير لإعداد ملف ورفعه إلى اليونسكو.
وفيما يأمل حمو ونجله أن تهطل الأمطار خلال أيلول/سبتمبر لتجنّب الترحال مرة أخرى، تتساءل الباحثة المغربية ما إذا كان بإمكان هؤلاء السكان “مقاومة التقلبات المناخية”.
وتشدد على ضرورة الحفاظ على هذه المهارة وتثمينها.
(أ ف ب)