التسوية الصعبة في غزة


تنطلق الدبلوماسية الواقعية من الإيمان بأن الحلول العملية القابلة للتنفيذ على الأرض، وبناء حقائق جديدة أفضل من الحلول المثالية المطلقة غير القابلة للتنفيذ، الأمر الذي يسفر عمليا عن استمرار الوضع السابق. وفي حالة غزة، فإن أكثر من 24 شهرا في حرب من أكثر الحروب وحشية ودموية في تاريخ العالم فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها وعجزت في مرحلتها الأخيرة عن تحقيق أكثر من المزيد من الإبادة للبشر والحجر. في المقابل لم تتمكن المقاومة بسبب ضعف محيطها العربي والحصار المفروض عليها، عن تحقيق هدف التحرير، أو حتى إنهاء الاحتلال.
وكان صمود الشعب الفلسطيني، وقدرته على تحمل التضحيات هو معامل التوازن الرئيسي، الذي أتاح للمقاومة فرص الاستمرار في القتال ضد العدو المحتل. وقد عبّر اتفاق شرم الشيخ الشهر الماضي عن لحظة تاريخية حاضنة لتسوية ممكنة، لأسباب كثيرة على الجانبين. واستطاع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اقتناص تلك اللحظة لشن هجوم دبلوماسي من أجل وضع تسوية تستجيب للمطالب العاجلة لكل من الطرفين، إسرائيل لاستعادة المحتجزين، الذين فشلت حرب الإبادة في إعادتهم، والفلسطينيين بعد أن فقدوا أكثر من 3 في المئة من تعدادهم، استشهدوا وارتقت أرواحهم للسماء، كان أكثر من ثلثهم من الأطفال. كما بلغت نسبة الجرحى والمصابين ما يصل إلى 9 في المئة من أهالي غزة. وتضمنت طموحات المقاومة أيضا تحرير أكبر عدد ممكن من الأسرى في السجون الإسرائيلية، وهو ما تحقق جزئيا. وبفضل الوساطة المصرية – القطرية والضغوط الأمريكية على نتنياهو نجحت مبادرة وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والمحتجزين. ومع انتهاء المرحلة الأولى من الاتفاق، بدأت متاعب الانتقال للمرحلة الثانية، وهي مرحلة مليئة بالألغام تحتاج للكثير من الفصاحة الدبلوماسية والحذر الاستراتيجي.
ويعتبر النجاح في إقرار مشروع القرار الأمريكي في مجلس الأمن بمثابة فاتحة مهمة للمرحلة الثانية من خطة ترامب. وقد استند القرار الذي صدر مساء الاثنين 17 من الشهر الجاري إلى خطة ترامب، التي وافق عليها مؤتمر شرم الشيخ، وحظيت بتأييد جميع الأطراف تقريبا بما فيها حماس. وفي اعتقادي أن أهم نتائج هذا القرار يتمثل في إنهاء حالة عدم اليقين بشأن وقف القتال، الأمر الذي يفسح المجال لعودة الحياة الطبيعية. ومن مظاهر النجاح أيضا أن التفويض بإنشاء الإدارة المؤقتة، التي تضم كلا من “مجلس السلام” و”القوة الدولية للاستقرار”، جاء بواسطة الأمم المتحدة، وليس في إطار صيغة متعددة الأطراف خارجها، كما كانت ترغب إسرائيل. ومع أن التفويض الذي أصدره مجلس الأمن في هذا الشأن يسري لمدة عامين فقط، فإننا نعلم من التجارب الدولية، أنه يمكن تجديده لمدد متساوية. ومن المرجح تجديد التفويض مرة أو أكثر، نظرا للشروط المرتبطة بنقل السلطة للفلسطينيين، والتعقيدات التي تحيط بالموقف الإسرائيلي. وقد يتيح هذا لإسرائيل استمرار احتلال ما يقرب من نصف مساحة قطاع غزة، ومواصلة حصاره والسيطرة على معابر الأفراد والبضائع.

الموقف الفلسطيني الرسمي

اعتادت الدبلوماسية العربية على الرفض بالبيانات والصياح ضد ما لا يرضيها، ولم تتعلم كيف توقف تنفيذ ما ترفضه، لم يتعلم العرب كيف أوقفت إسرائيل حتى الآن تنفيذ قرار مجلس الأمن 242 لعام 1967 كاملا. ولم تتعلم كيف قتلت إسرائيل اتفاقيات أوسلو، ولم تعلن عن دفنها حتى أصبحت تلك الاتفاقيات مجرد حبر على ورق. وقد انقسم الموقف الفلسطيني من قرار مجلس الأمن الأخير بشأن غزة، بين قبول من جانب السلطة ورفض من جانب حماس. من ناحيتها أكدت السلطة الوطنية الفلسطينية، ضرورة العمل فورا على تطبيق القرار على الأرض، بما يضمن عودة الحياة الطبيعية، وحماية الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة ومنع التهجير، والانسحاب الكامل لقوات الاحتلال، وإعادة الإعمار ووقف تقويض حل الدولتين، ومنع الضم، وفقا لما نقلت وكالة الأنباء الفلسطينية “وفا”. لكن انخراط السلطة الفلسطينية في عملية تنفيذ الاتفاق مشروط بتعديلات جوهرية في بنيتها وسياساتها، الأمر الذي قد يستغرق أكثر من عامين، خصوصا مع الانقسام الفلسطيني الواضح بشأن الموقف من القرار. وفي المقابل قالت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في بيان رسمي، إن القرار “يفرض وصاية دولية على القطاع، ويتجاهل معاناة الفلسطينيين التي استمرت أكثر من عامين، نتيجة حرب إبادة وجرائم غير مسبوقة”، مشيرة إلى أن آثار هذه الحرب ما تزال قائمة، رغم إعلان انتهاء العمليات العسكرية، وفق خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وأكدت حماس أن مشروع القرار “يحاول فرض وصاية دولية على غزة ويفصل القطاع عن سياقه الجغرافي الفلسطيني”، معتبرة أن ذلك يمثل “محاولة لفرض واقع جديد يتناقض مع ثوابت الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير المصير”. وأوضحت الحركة أن القرار يتجاهل حقوق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة وعاصمتها القدس، محذرة من أن أي تدخل دولي في ملف المقاومة يجب أن يكون “تحت إشراف الأمم المتحدة فقط”. وقد ذكرت صحيفة “الغارديان” البريطانية أن السعودية بذلت جهدا كبيرا غير مثمر من أجل تعديل صيغة دور القوات الدولية، لتكون مسؤولة أمام الأمم المتحدة وليس أمام “مجلس السلام”. وقال بيان حماس إن تكليف قوات دولية بمهمة نزع سلاح المقاومة “يحوّلها إلى طرف في الصراع”، مطالبة بأن تقتصر مهام أي قوة دولية على مراقبة الحدود، ووقف إطلاق النار فقط، دون التدخل في صراع الفلسطينيين مع الاحتلال. ودعت الحركة المجتمع الدولي إلى “تحمل مسؤولياته لتحقيق العدالة وإنهاء الاحتلال”، كما طالبت “بفتح المعابر الإنسانية فورا وضخ المساعدات دون أي تسييس”، مؤكدة أن الشعب الفلسطيني يجب تمكينه من تقرير مصيره بنفسه دون قيود أو شروط.
وإزاء هذا الخلاف ربما يكون طرح قرار مجلس الأمن على الشعب الفلسطيني للاستفتاء العام تحت إشراف الأمم المتحدة، طريقا لمحاولة توحيد الخط السياسي الفلسطيني، والتقريب بين الفصائل وابتكار صيغة جديدة لتنظيم الرد العملي على تداعيات القرار بناء على نتائج الاستفتاء.

مخاطر وتحديات

قرار مجلس الأمن ينهي حالة عدم اليقين، ويجعل وقف إطلاق النار أمرا مؤكدا في المرحلة الثانية، مع الأخذ في الاعتبار أن بعض الخروقات قد تحدث هنا أو هناك، ما لم تستجد تطورات تؤدي إلى تقويضه، واستئناف الحرب من جديد. في الوقت نفسه فإن القرار يمنح إسرائيل غطاء شرعيا للاستمرار في احتلال ما يقرب من نصف قطاع غزة، ويحشر ما يقرب من مليونين من الفلسطينيين غير الراغبين في العيش تحت الاحتلال الاسرائيلي في النصف الآخر. غير أن أخطر ما يقدمه القرار لإسرائيل هو تقنين الحصار من خلال تحكمها في معابر الوصول إلى قطاع غزة والخروج منه. إن القبول باستمرار الاحتلال يسمح لإسرائيل عمليا بالتحكم في دخول الإمدادات الغذائية والسلع من الخارج، ومواد الإعمار وإعادة البناء، والتحكم في حرية انتقال الأفراد. كما أن القرار لا يقيم حدودا واضحة تحول دون اجتياح المنطقة الحمراء من قطاع غزة بواسطة قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي.
ورغم كل ما يحمله قرار مجلس الأمن من سلبيات بالنسبة للشعب الفلسطيني، فإنه يحمل في طياته فشلا ذريعا للدبلوماسية الإسرائيلية، في ما يتعلق بدور الأمم المتحدة في قطاع غزة. ذلك أن الحكومة الإسرائيلية لم تكف خلال الحرب عن اتهامها بالتستر على ما تسميه “الإرهاب” الفلسطيني”، ورفضت أن يكون لها دور في توفير وإدارة أعمال توزيع المساعدات الإنسانية. وسوف تكشف الأيام والأسابيع المقبلة كيف أن إسرائيل ستحاول تفريغ قرار مجلس الأمن من مضمونه، نظرا للتنسيق العسكري والمدني مع الولايات المتحدة. ومن المرجح أن يلعب قرار مجلس الأمن في حال عدم التلاعب به في مرحلة التنفيذ دورا مهما في إضعاف سلطة نتنياهو وحكومة ائتلاف اليمين الدموي في الانتخابات العامة المقررة في أواخر العام المقبل. وربما يكون واحدا من محركات التغيير السياسي التي بدأت التفاعل في إسرائيل ضد اليمين الصهيوني منذ طرحت الحكومة قانون الإصلاحات القضائية في عام 2023 حتى الآن.
وبالنسبة للدول العربية فإن قرار مجلس الأمن يحمل مخاطر شديدة، تتطلب نشاطا دبلوماسيا ذكيا بواسطة الدبلوماسية الفلسطينية والعربية. هناك مخاطر تقنين استمرار الاحتلال لما يقرب من نصف قطاع غزة، ومخاطر تقنين استمرار الحصار بقرار دولي، وتقييد عملية الإعمار وإعادة البناء، ومخاطر فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، مع عزل القدس عن بقية فلسطين. كما أن القرار يفرض تحديات سياسية جديدة على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، نظرا لأنه في نهاية الأمر يعزز الشراكة الأمريكية – الإسرائيلية في الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط.
كاتب مصري



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *