لم تكن تجربة الفنان التشكيلي حسن إبراهيم الشخصية، سهلة ويسيرة، فقد حالت الظروف القاهرة دون إكمال دراسته في كليّة الفنون الجميلة في بغداد، إثر تخرّجه في معهد الفنون الجميلة، غير أن إصراره قاده إلى مواجهة أصعب امتحان في حياته: الحرب العراقية ـ الإيرانية، إذ أمضى ما يقارب ثماني سنوات طويلة في جبهات القتال، يواجه الموت كل يوم، ويشهد بأم عينيه عبثية القتل والدمار.
هذه التجربة القاسية لم تتركه كما كان، بل شكّلت جوهر رؤيته الفنية لاحقاً، عاد إلى الرسم، كما لو أنه يكتب شهادة حية مضّادة للموت، في مواجهة التراجيديا بكامل ثقلها. لذلك جاءت ألوانه مشرقة، كأنها ردّ فعل على العتمة، مقاومة للخراب، واحتفاء بالوجود. هنا تكمن المفارقة: فبينما تُثقل الحرب أرواح الكثيرين باليأس والقتامة، اختار حسن إبراهيم أن يجعل من اللوحة فضاءً للحياة، رسم إشراقات لونية تعكس توقاً عميقاً للحرية والسلام، فجاء تجريده اللوني ليس ترفاً جمالياً، بل صرخة حياة ضد الموت، واحتجاجاً صامتاً على حرب اقتطعت من عمره أجمل سنوات شبابه.
بهذا المعنى، فإن تجربة حسن إبراهيم ليست مجرد تجربة فنان مجتهد، بل تجربة إنسان صاغ الفن ليكون عزاءً وشفاءً من تراجيديا الحرب، ومتنفساً روحياً يستعيد عبره معنى أن يكون إنساناً، قادراً على الحلم، على الرغم من الجراح.
يقدّم حسن إبراهيم مثالاً للفنان الذي لم تستوقفه العواقب المؤسسية، بل اعتمد موهبته ومثابرته ليصوغ تجربة ذات خصوصية تنبض بلغة لونية شفافة، تحيل التجريد إلى طقس من البهجة والصفاء، وفي خريطة التشكيل العراقي يقف حسن كصوت متفرد، قريب من روح جيله، لكنه يحتفظ بخصوصية تجعله جزءاً من تيار التجريد العربي، وفي الوقت ذاته علامة مميزة في المشهد الفني العراقي.
درس إبراهيم الفن على يد أساتذة كبار مثل: شاكر حسن آل سعيد ورافع الناصري ومحمد مهر الدين، وكل واحد منهم كان مدرسة بحد ذاته، الأول، منظّر «البعد الواحد» المعروف، والثاني منح الطباعة والحروفية بُعداً معاصراً في فن الغرافيك، واشتغل الثالث على تجريب اللون وتوتراته، هذه البيئة صقلت رؤيته، وتأثر فيها لكنها لم تقيّد استقلاليته. واصل مشواره الفني بالاجتهاد والتجربة، فأقام وشارك في معارض داخل العراق وخارجه، مثبتاً حضوره بموهبته ومثابرته.
قدّم حسن إبراهيم نفسه في سياق الحركة التشكيلية العراقية، كامتداد لأولئك الرواد من جيل الستينيات والسبعينيات، تلك المرحلة التي شهدت تحولات كبيرة حين برزت أسماء أسست للحداثة التشكيلية، وخلقت مناخاً عاماً دفع بالفن العراقي نحو التحرر من المحاكاة الواقعية والدخول في آفاق التجريد والمعاصرة.
في هذا السياق يمكن قراءة تجربة حسن إبراهيم، بوصفها تجربة متأثرة بمناخ التجديد، بمسار له خصوصية الفنان الذي جعل من لوحته مساحة للصفاء البصري والسكينة الداخلية، بعيداً عن النزعة الفلسفية، فهو يشيع الضوء واللون الشفاف، أكثر من الغوص في التجريد النظري، أو الانشغال بالرمزيات الثقيلة. لذلك فإن أعماله تبدو أقرب إلى التجريد الحسي ـ الشعوري الذي يخاطب العين والوجدان مباشرة. غير أن هذا التجريد الروحي قد يبدو أنه خارج الزمن، وبعيداً عن ألفة النظر، فالفنان لا يقدّم نفسه بسهولة، وهو يشدّ الأوتار ويرخّيها، ليشيّد عمارة اللون وهو في حالة الوجد الصوفي المتوهج، يتنفس هواء العالم ويحيله إلى شظايا خطوط وألوان. لوحة حسن إبراهيم تجريد لوني مبهج، يعتمد الشفافية والانسجام، أقرب إلى الموسيقى البصرية. بوصفها لغة قائمة بذاتها، حيث يتحول اللون إلى طاقة نابضة، والخطّ إلى إيقاع بصري، يمنح المتلقي إحساساً بالانفتاح والأمل. اختار هذا الإيقاع معادلاً موضوعياً لألوانه وتشكيلاته التجريدية، استطاع أن يترجمها على سطح اللوحة بتقنيته الخاصة والذاتية. ومع أن التجريد أسلوبه المهيمن، إلا إن أعماله غير منقطعة عن الواقع، فهو يفصح عن ذكريات وايحاءات تتسلل عبر ضوء الشمس، وصفاء الفضاءات بوصفها عناصر طبيعة لا تظهر كأشكال مرئية مباشرة. إذ يبدو الفنان مهتماً بعلاقة المساحة المرسومة بدقّة مع المساحة المجاورة لها، ينقل ملونته الشفافة وألوانه الانطباعية، وإحساسه التأثيري، إلى الفن التجريدي، بطريقة يعطي فيها اللوحة حيوية خاصة.
يتخذ حسن إبراهيم من تناغم الألوان مصدراً لخلق أجواء للحوار المتأزم في اللوحة من دون أن يضّحي بالجانب الشكلي، وهنا يتوصل إلى توازن منطقي بين الاثنين. لوحاته قائمة على الحوار، ليس بين الألوان في تعبيريتها وإيماءاتها التصويرية فحسب، إنما من خلال الأصوات والإيقاعات، وإذا قلنا إن أعمال الفنان تحمل جانباً من سماتها: الحسّ والروح الانطباعية، فإننا لا نبتعد بذلك عن إطارها العام، فهو انطباعي بالفعل، ولكن في إطار حداثي متطور زمنياً وعصرياً وهو التجريد. فاتجه إلى مخزون الذات وتوهج الومضة في أعماقه، من خلال ألوانه وفرشاته للتعبير بإشارات محسوسة، أو دلالات ورموز، ولعل هذه الخصيصة جعلته في نجاة من الضياع في متاهات التغريب. وما دام لكل فنان مفردات فنية خاصة يستخدمها في التعبير عن رؤاه، وما دامت تلك اللغة الحرة تعاش من الداخل، فإن على المتلقي أن يمارس الحرية ذاتها كي يفهم العمل الفني.
لقد أسس كاندينسكي أحد أهم مبتكري الفن التجريدي، أبحاثه في الخصائص الانفعالية والنفسية للون والشكل، والخط إلى الدرجة التي وصل فيها إلى أنهما عنصران كافيان للتعبير عمّا تريد أن تنقله اللوحة إلى المتلقي، إذ يقول: «كما أن الموسيقى تتأثر على نحو فعال بالروح، كذلك الشكل واللون، في تحقيق التوافق الجمالي الناجح ما بين الضرورة الداخلية، والمغزى التعبيري». فمنذ أن بدأت تتصاعد حركة التجريد في أوروبا أواخر القرن التاسع عشر، والتشكيليون يقفون على عتبة تطور جديد يختلف تماماً عمّا سبقه، فن جديد بأشكال لا تقصد معنى ما، ولا تصوّر شيئاً ما، ولا تذكرنا بأي شيء ـ برأي أحد النقاد ـ ولكنها تحرّكنا في أعماقنا بقوة لم يسبقها إليها سوى أصوات الموسيقى القادرة على ذلك. أعاد الفنان إبراهيم تأليف اللوحة، وفق هذه المفاهيم، وأغنى تجربته برؤى جديدة، لم تقف عند حالة السكون، إنما هو يخوض تجربته بروح الفنان المتطلّع إلى الاكتشاف والتجديد. نحو الوصول إلى تخوم جديدة من التعبير، أهّله أن يقدم عالماً هو مزيج من الحلم والتأليف الخاص. ويظل خبيراً في اللون: درجاته وأضداده، يمتلك حساسية متفردة فيه، استطاع أن يقف إلى جانب عدد الفنانين، نقلوا التجريد من شكله البسيط إلى قيمة جمالية متجانسة.