غزة – «القدس العربي»: في عالم يموج بالأحداث الصادمة والحروب والكوارث، لا يقتصر الألم على الجروح الجسدية فحسب، بل يمتد ليترك أثرًا عميقًا في النفس. وهنا يبرز الإسعاف النفسي الأولي كخط دفاع أول يساعد المتأثرين في غزة على مواجهة لحظاتهم الأصعب، ويمنحهم قدرًا من الأمان وسط الفوضى. هذه الخدمة الإنسانية العاجلة باتت اليوم حاجة ملحّة، خاصة للفئات الأكثر هشاشة مثل الأطفال وكبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة، حيث يشكّل الاهتمام باحتياجاتهم الخاصة مدخلًا أساسيًا لحمايتهم وتمكينهم من استعادة توازنهم النفسي.
خدمة عاجلة
في لحظة ما قد يجد الإنسان نفسه في مواجهة حدث صادم يترك أثرًا نفسيًا عميقًا، وهنا يأتي دور الإسعاف النفسي الأولي كاستجابة عاجلة تنقذ الشخص من الانهيار وتفتح أمامه باب التعافي. ويؤكد المدرب سهيل الطناني، استشاري الحماية في غزة، لـ»القدس العربي»، أن الإسعاف النفسي الأولي يُقدّم خلال الساعات أو الأيام الثلاثة الأولى من وقوع الصدمة، مشددًا على أنه ليس علاجًا طويل الأمد، بل خطوة أولى وأساسية لتخفيف الألم النفسي.
ويشير الطناني إلى أن هذه الخدمة موجّهة للجميع، لكنها تتطلب عناية خاصة عند التعامل مع الفئات الأكثر هشاشة مثل الأطفال وكبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة، فلكل إعاقة احتياجات مختلفة يجب مراعاتها بدقة.
فبالنسبة للأشخاص ذوي الإعاقة السمعية، يفضَّل وجود مترجم لغة إشارة، وفي حال غيابه على المسعف النفسي الأولي الاعتماد على قراءة الشفاه والتحدث ببطء. أما ذوو الإعاقة الحركية فمن المهم احترام رغبتهم بالسؤال إن كانوا بحاجة إلى الخدمة أم لا. أما الأشخاص ذوو الإعاقة الذهنية فيحتاجون إلى أسلوب أكثر صبرًا وهدوءًا مع تبسيط الكلام. ويرى الطناني أن الفرق بين الإسعاف النفسي الأولي والدعم النفسي الاجتماعي يكمن في الزمن، فالأول يركز على الأيام الأولى بعد الصدمة، أما الثاني فيرافق الشخص لفترات أطول.
جسر عبور نحو التعافي ووسيلة للحماية من الانهيار
وفيما يتعلق بالتدريبات، شدد الطناني على أن عقد تدريبات الإسعاف النفسي الأولي للأشخاص ذوي الإعاقة يتطلب بيئة مهيأة تراعي احتياجاتهم المختلفة، بحيث تكون قاعات التدريب ميسّرة لذوي الإعاقة الحركية، مزودة بمترجم لغة إشارة للأشخاص ذوي الإعاقة السمعية، مع مراعاة الإضاءة ونوعية الخط للأشخاص ذوي الإعاقة البصرية الجزئية. لكن التحدي الأكبر، حسب الطناني، أن كثيرًا من مقدمي الخدمات لم يتلقوا تدريبات متخصصة للتعامل مع هذه الفئات، ما يستدعي تعزيز البرامج التدريبية لتكون شمولية تراعي الجميع بلا استثناء. ويختم الطناني بقوله إن الإسعاف النفسي الأولي ليس مجرد تدخل سريع، بل رسالة إنسانية تحمي المصدوم من الغرق في معاناته وتمنحه الأمان في لحظاته الأولى من الألم.
نافذة تعافٍ
لم يعد الإسعاف النفسي الأولي مجرد مصطلح غامض بالنسبة لعدد من الأشخاص ذوي الإعاقة، بل أصبح أداة عملية تفتح نافذة للتعافي بعد الصدمات، كما عبّرت عن ذلك سهام عويضة ودعاء قشلان، اللتان شاركتا في تدريب نظمته مؤسسة «أطفالنا» للصم.
تقول سهام عويضة لـ«القدس العربي»، إنها كانت تعتقد أن الإسعاف النفسي الأولي مجرد إجراء بسيط للتخفيف عن أي شخص يمر بموقف صعب، لكنها اكتشفت خلال التدريب أنه عملية متكاملة لها خطوات واضحة وأسس علمية. وتضيف أن التدريب زوّدها بمهارات ومعارف جديدة، من أبرزها المبادئ العامة للإسعاف النفسي والأخطاء الشائعة التي يجب تجنبها. ورغم بعض الصعوبات المتعلقة بمواءمة المكان، إلا أن المساندة من الآخرين ساعدت على تجاوزها. وتوضح عويضة أن التدريب منحها القدرة على التعامل مع المواقف الضاغطة بشكل أكثر مهنية.
أما دعاء قشلان، فترى أن التدريب غيّر فكرتها جذريًا عن الإسعاف النفسي الأولي. تقول: «كنت أظنه مجرد كلمات لتطييب الخاطر، لكنني تعلمت أنه عملية منهجية بأدوات وخطوات دقيقة». وتؤكد أن التدريب جاء مناسبًا لاحتياجاتهم، خاصة في ظل ما يمر به الأشخاص ذوو الإعاقة من نزوح وضغوط نفسية متراكمة بسبب الحرب.
وتشير إلى أن التدريب ساعدها على مواجهة المواقف الصعبة بوعي أكبر، بل ومكّنها من مساندة شقيقتها ذات الإعاقة الحركية عبر التخفيف من ضغوطها النفسية. وتضيف أن ما تحتاجه التدريبات المقبلة هو تركيز أكبر على الجوانب النفسية، مع إيلاء اهتمام خاص بالفئات الأكثر هشاشة كالنساء والأطفال وكبار السن. وبين تجربتي سهام ودعاء، يظهر أن التدريب لم يكن مجرد جلسات نظرية، بل محطة فارقة منحت المشاركات أدوات عملية لتعزيز قدرتهن على الصمود، ومهارة لتقديم الدعم النفسي لمن يحتاجه في أحلك اللحظات.
أهمية الإشراك
ولم يعد الإسعاف النفسي الأولي مجرد مفهوم عام بالنسبة للشابة ندى زيارة، بل أصبح خبرة عملية غيّرت مفاهيمها حول الدمج والشمول، وذلك بعد مشاركتها في تدريب نظمته مؤسسة «أطفالنا» للصم في غزة، وضمّ أشخاصًا ذوي إعاقة إلى جانب آخرين من غير ذوي الإعاقة.
تقول ندى زيارة، خريجة كلية تكنولوجيا المعلومات قسم وسائط متعددة، لـ»القدس العربي»، إنها انجذبت للتدريب منذ البداية، فالعنوان وحده كان كفيلا بدفعها للمشاركة، خاصة في وقت الحرب حيث يتعرض الجميع لمواقف تحتاج إلى إسعاف نفسي أولي.
وتوضح أن التجربة كانت الأولى لها في الدمج مع أشخاص ذوي إعاقة، ووصفتها بالرائعة لأنها صحّحت لديها الكثير من المفاهيم وأضافت لها معلومات جديدة، أهمها أن روح العمل يجب أن تكون موجودة في كل زمان ومكان دون أي تفرقة. وتشير ندى إلى أنها واجهت بعض الصعوبات في بداية التدريب في مسألة الاندماج مع الأشخاص ذوي الإعاقة، لكنها سرعان ما تجاوزتها، بل تحوّلت التجربة إلى مساحة من الحب والتفاعل. وتستعيد موقفًا مؤثرًا خلال التدريب حين روت إحدى المشاركات قصة فقدان بصرها وما واجهته من تخلي حتى من أقرب الناس إليها، وتقول ندى إن هذا الموقف ترك أثرًا عميقًا بداخلها وأعاد تشكيل نظرتها لكثير من القضايا.
وترى ندى أن إشراك الأشخاص ذوي الإعاقة في مثل هذه التدريبات أمر في غاية الأهمية، لأنه يتيح الاستماع إلى آرائهم والتعرف على احتياجاتهم بشكل مباشر، وهو ما يضمن أن تكون التدريبات أكثر فاعلية وواقعية. وتؤكد أن أثر التدريب لم يتوقف عند الجانب المعرفي فقط، بل انعكس أيضًا على حياتها الشخصية حيث أصبحت ترى أن عليها مسؤولية مجتمعية في تصحيح المفاهيم الخاطئة تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة، إلى جانب اكتسابها خبرة في الإسعاف النفسي الأولي تساعدها على مواجهة الصدمات اليومية. وتشدد ندى على أن الرسالة الأسمى من التدريب هي نشر المعرفة المهنية بالإسعاف النفسي الأولي باعتبارها وسيلة ضرورية لمعالجة الصدمات في واقع مليء بالأحداث الضاغطة. وتوصي بضرورة تطوير البرامج المقبلة من خلال توفير أماكن ملائمة للأشخاص ذوي الإعاقة، وزيادة أعداد المشاركين، والاهتمام بالتدريبات التطبيقية الميدانية، ووضع الموضوع في عين الاعتبار بجدية أكبر.
وبين تجربة الاندماج ومواجهة التحديات يظهر أن التدريب لم يكن مجرد لقاء عابر، بل محطة فارقة منحت ندى أداة جديدة لفهم ذاتها ومجتمعها، وأساسًا لتقديم الدعم النفسي في أشد اللحظات حاجة إليه.
فالإسعاف النفسي الأولي ليس مجرد استجابة سريعة للحظة صادمة، بل هو جسر عبور نحو التعافي ووسيلة لحماية الإنسان من الانهيار. ومن خلال التدريب والممارسة يصبح الأفراد أكثر قدرة على مواجهة الضغوط ومساندة من حولهم، لتتحول هذه الخدمة من إجراء طارئ إلى ثقافة إنسانية تعزز الصمود وتؤكد أن الاهتمام بالنفس لا يقل أهمية عن إنقاذ الجسد.