إيران تحاول “بالقوة الناعمة” بناء نظام إقليمي هادئ ومتخوفة من إسرائيل وأمريكا المارقتين


لندن – “القدس العربي”:

نشرت صحيفة “الغارديان” تقريرا لمحررها الدبلوماسي باتريك وينتور أعده من العاصمة الإيرانية طهران، تساءل فيه إن كانت إيران قادرة على إعادة تشكيل نفسها بعد الحرب الأمريكية- الإسرائيلية عليها خلال الصيف ومواجهة التحديات الداخلية المتزايدة.

وقال إن إيران بدأت أولى خطواتها المتعثرة لتعزيز قدرات قوتها الناعمة الضعيفة، حيث ترى أن هناك فرصة ضئيلة لتحسين علاقاتها الإقليمية بعد الحملة التي شنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في حزيران/يونيو، وهجوم إسرائيل على مفاوضي حماس في قطر، مما أثار قلق دول الخليج.

ويقول وينتور إن هذه المواقف الجديدة في السياسة الخارجية والتي تبدو مؤقتة جاءت بدافع الضرورة، حيث تعرض جزءا كبيرا من شبكة تحالفات إيران العسكرية الإقليمية للضربات والتفكيك في السنوات الأخيرة.

ولكن هناك أيضا شعورا في طهران بأن انتهاك ترامب للقانون الدولي يمنحها فرصة لتشكيل تحالفات أقل إشكالية مع جيرانها العرب.

هناك شعور في طهران بأن انتهاك ترامب للقانون الدولي يمنحها فرصة لتشكيل تحالفات أقل إشكالية مع جيرانها العرب

ففي منتصف تشرين الثاني/نوفمبر، عقد مركز أبحاث إيراني تابع لوزارة الخارجية منتدى في طهران بعنوان “القانون الدولي تحت الهجوم”. وناقش أكاديميون دوليون وكبار الدبلوماسيين الإيرانيين كيف أصبحت الولايات المتحدة، وليس إيران الآن الدولة المارقة التي تعمل على تدمير النظام القائم على القواعد. وفي مؤتمر صحافي عقد مؤخرا في العاصمة الإيرانية، قال وزير الخارجية عباس عراقجي: “لقد تعرضت الأسس المتينة للقانون الدولي لهجمات غير مسبوقة من قبل قوى كان من المتوقع أن تكون من المدافعين عنها والحارسة الدائمة لها”.

ويقول وينتور إن الإيرانيين غاضبون من غياب الشجب الدولي للضربات الأمريكية ضد إيران في حزيران/يونيو، وهي الضربات التي ساهمت مع الغارات الإسرائيلية بمقتل أكثر من 1,000 شخص. وزاد اعتراف الرئيس الأمريكي بالمسؤولية عن الغارات ضد المنشآت النووية من غضب المسؤولين الإيرانيين، حيث تظاهر بأنه يقوم بالتفاوض مع إيران بشأن ملفها النووي.

 ويتذكر هؤلاء المسؤولون بأنهم كانوا يحضرون للجولة السادسة من المفاوضات مع الأمم المتحدة عندما استفاقوا في الساعة الثالثة صباحا على أصوات القنابل وهي تنهمر، وبعد ساعات أنكر المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف أن يكون على علم بالهجوم.

ولا تقوم إيران بمعالجة هذه المظالم فحسب، بل وتحاول استغلالها لإعادة تموضعها في المنطقة، وتمد يد الصداقة لدول مثل المملكة العربية السعودية ومصر وقطر. وقال عراقجي: “تعتبر إيران أمن دول المنطقة أمنها الخاص، وتريد أن تكون “الثقة الدائمة” أساسا ومحورا للفضاء الجديد في هذه المنطقة”.

ويعتقد تريتا بارسي، من معهد “كوينسي” في الولايات المتحدة، أن إيران قادرة على إيجاد جهات مستمعة. وأضاف بارسي: “بعد الهجوم الإسرائيلي على قطر في أيلول/سبتمبر، حدث تحول كبير في تفكير مجلس التعاون الخليجي ككل. حيث اعتبرت لسنوات عدة، إيران التهديد الرئيسي”.

وكان استثمارهم في الأسلحة موجها بالكامل لحمايتهم من إيران. أما الآن، فيرى الكثيرون أن “إيران قد ضعفت من جهة، وأن إيران لم تعد تحمل نفس العداء في نظرهم، بينما إسرائيل لم تعد مقيدة على الإطلاق”.

ويستشهد بعض المسؤولين الإيرانيين بفخر بخطاب ألقاه وزير الخارجية العماني السيد بدر بن حمد البوسعيدي في منتدى السياسة الخارجية الذي عقد مؤخرا في طهران وقال فيه بصراحة إن “إسرائيل وليست إيران هي مصدر عدم الأمن بالمنطقة”. وقال البرفسور في جامعة طهران محمد مرادندي، الذي تحدث في حلقة النقاش إن النظام العالمي يتعرض لتحولات أساسية.

غيرت صور غزة نظرة الأمريكيين والأوروبيين إلى إسرائيل

ونتيجة للتدهور الاقتصادي الأمريكي، قال إن “الاستثنائية الأمريكية لم تعد تتمتع بنفس التأثير الذي كانت تتمتع به على الرأي العام الأمريكي”. وفي الوقت نفسه، غيرت صور غزة نظرة الأمريكيين والأوروبيين إلى إسرائيل. وقال عن هذا التحول: “إنه أمرٌ لا يصدّق”. وقال مراندي إنه ينبغي على إيران استغلال هذه اللحظة لبناء تحالفات. مضيفا: “في وقتٍ يشهد فيه العالم تغيرا جذريا، من الواضح أن هناك فرصا لتحسين العلاقات بين دول المنطقة” و”بالطبع، نظرا لتاريخ وطبيعة بعض دول المنطقة، ستظل هذه التبادلات صعبة، لكن هذه هي أفضل فرصة متاحة الآن”.

ويقول وينتور إن الحديث عن فتح عهد جديد من العلاقات مع دول المنطقة خال من مخاوف التهديدات الإيرانية لا يعني أن إيران ستتخلى بسهولة عن برنامجها النووي وحقها في تخصيب اليورانيوم، رغم كل الحديث عن عهد جديد محتمل في كيفية تقديم إيران لنفسها في المنطقة، ولا يوجد أي شعور بأنها تتخلى عن القوة العسكرية أو حقها السيادي في تخصيب اليورانيوم. ويقول العديد من المسؤولين سرا إنهم يخشون أن يكونوا بين حربين. ويضيفون أن عليهم الاستعداد لهجوم أمريكي آخر قبل مغادرة ترامب البيت الأبيض. وهذا يعني إعادة تجهيز الدفاعات الجوية، ومحاولة شراء طائرات سوخوي الروسية، وتوسيع مخزون الصواريخ الباليستية طويلة المدى، وفي الوقت الحالي، إبعاد منشآتها النووية المليئة بالأنقاض عن مفتشي الأمم المتحدة النوويين.

وقال عراقجي إنه يواجه أسئلة يومية من الجمهور حول رفع فتوى امتلاك قنبلة نووية. وكان أحد العلماء النوويين الذين قتلتهم الولايات المتحدة في يونيو، فريدون عباسي، من دعاة الطائرات بدون طيار المزودة برؤوس نووية، والتي ينظر إليها على أنها وسيلة محتملة لتجاوز فتوى أسلحة الدمار الشامل.

وقال فؤاد إزادي، الأستاذ المشارك في جامعة طهران ومن التيار المحافظ، موضحا هذه المعضلة: “هناك ضغط كبير على الحكومة الحالية من الإصلاحيين للتفاوض أكثر، لكن هناك ضغطا من الجانب الآخر، أي المحافظين الذين يقولون إن إيران لا تستطيع تحمل مفاجأة أخرى”. وأضاف: “لذا، فإن وزير الخارجية عالق في هذا المأزق. وعليه أن يتوخى الحذر لأن هجمات حزيران/يونيو وقعت في عهده، والناس يتساءلون: لماذا لم يدرك أن هذه عملية خداع؟ وهو تحت ضغط كبير لعدم إصداره بيانا يتحدث فيه عن شكوكه” من النوايا الأمريكية.

وأضاف إزادي بأنه مقتنع من عودة الضربات الأمريكية وبضغط إسرائيلي: “لا أعتقد أنهم انتهوا ويعتقدون أن إيران ضعيفة. ولا أعتقد أن لديهم أي معايير أخلاقية وهدف إسرائيل هو تحويل إيران إلى سوريا أو ليبيا أخرى”.

ونقلت الصحيفة ما قاله سعيد خطيب زاده، نائب وزير الخارجية: “إذا جرت مفاوضات، فستكون بالتأكيد مفاوضات مسلحة”. ووصف الفترة الحالية بأنها “معركة إصلاح وتعاف ستحدد المستقبل” بين إسرائيل وإيران. ومثل كثيرين، يخشى أن تكون المفاوضات مع الولايات المتحدة فخا آخر.

وأكد إزادي، بشكل أقل إقناعا، أن إيران تشهد شكلا جديدا من التماسك الاجتماعي الداخلي. وقال: “يهدد ترامب بمهاجمة إيران بين الحين والآخر، لكن ما يفعله هو تعليم الجيل الجديد من الشباب الإيرانيين مناهضة أمريكا كما كان آباؤهم، وهذه ليست مهمة سهلة”، مع أن إزادي نفسه يعترف بأن الوحدة التي أوجدتها هجمات حزيران/يونيو آخذة في التلاشي، حيث عاد الإيرانيون لمواجهة المشاكل الاقتصادية اليومية بما في ذلك التضخم الذي بلغ الآن 50%.

علاوة على ذلك، لم تؤد الصحوة القومية إلى تخفيف قبضة الدولة الحديدية على المجتمع. وفي خطاب ألقاه قبل فترة، انتقد الرئيس الإصلاحي السابق محمد خاتمي عجز الحكومة عن إطلاق سراح السجناء السياسيين أو رفع القيود المفروضة على الإنترنت. وقال: “لقد ازدادت عمليات استدعاء والتحقيق، وحتى محاكمة العديد من السياسيين والإعلاميين والمثقفين، وكذا الشخصيات المرموقة والمجَرَبة”.

بحلول منتصف آب/أغسطس، اعتقلت قوات الأمن الإيرانية حوالي 21,000 شخص. وبلغت عمليات الإعدام أعلى مستوى لها منذ عام 2015

وفي 30 تشرين الأول/أكتوبر، وجدت بعثة الأمم المتحدة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق بشأن إيران أن إضرابات حزيران/يونيو أعقبت حملة قمع محلية “زادت من تضييق الفضاء المدني وقوضت الإجراءات القانونية الواجبة واحترام الحق في الحياة”.

وبحلول منتصف آب/أغسطس، اعتقلت قوات الأمن حوالي 21,000 شخص. وبلغت عمليات الإعدام أعلى مستوى لها منذ عام 2015.

وكتب مصطفى تاج زاده، وهو سجين سياسي إصلاحي، قبل فترة من سجن إيفين، أن إيران لا تزال عالقة في نوع من وضع يشبه “أصحاب الأعراف” تنتظر التغيير، لكنها لا تعرف ما ستكون عليه النتيجة. وأظهرت التطورات في فعالية أخرى في طهران القيود المحتملة لأي غزو للقوة الناعمة، كما كشفت عن الانقسامات العميقة في البلاد.

وقد انطلق أسبوع التصميم في 64 موقعا في جميع أنحاء المدينة تحت شعار “تراث ديناميكي ومستقبل مستدام”، حيث عرض تصميم الديكور والأزياء والأثاث ومنحوتات الشوارع. قدم الحدث صورة لإيران تتناقض تماما مع تصويرها في وسائل الإعلام الغربية. وتم إغلاق المعرض بحجة “مخاطر السلامة” الناجمة عن العدد الكبير من التركيبات الكهربائية وكثافة الزوار. في الواقع، أثار المعرض ردود فعلٍ سلبية بعد انتشار مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي تظهر العديد من النساء في المعرض بدون الحجاب.

 في ثقافتها ودبلوماسيتها، هناك ملامح باهتة لإيران مختلفة، متحررة من عزلتها الذاتية إلى حد كبير، لكن قوى التيار المحافظ المتجذرة وإيمانها بالقوة الصلبة، تجعل أي إيران جديدة تواجه معركة مصيرية وهي تحاول الظهور.



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *