إبراهيم طوقان يرد على رئوبين


في أواخر عشرينيات القرن الماضي، عندما كانت العصابات الصهيونية تعيث فساداً في فلسطين، وتنفذ تدريجياً المخطط الشيطاني لاحتلال الأرض والاستيلاء عليها، وعندما كان الشعب الفلسطيني يتصدى للإنكليز والصهاينة في آن واحد ويحاول أن يوقف المأساة منذ بداياتها، وأن يحد من تمددها السرطاني، وعندما كانت المعارك تدور على الأرض في أنحاء فلسطين، كانت هناك معارك أخرى تدور في ساحات الأدب وعلى أوراق الصحف، وكان النزال قائماً بين الكلمة الصهيونية المعتدية والكلمة الفلسطينية التي تدافع عن النفس والأرض والحق.
في ديوان الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان الذي عاش في الفترة من عام 1905 حتى عام 1941، نطالع قصيدة فريدة من نوعها بين بقية روائعه من القصائد نظمها عام 1929، عنوان القصيدة «رد على رئوبين» وقام طوقان بالتقديم لها قائلاً: «نشرت الجريدة اليهودية «دوار هايوم» قصيدة لشاعر اليهود رئوبين، نقلتها إلى العربية جريدة «فلسطين»، وعنوان القصيدة «أنشودة النصر»، أتى فيها الشاعر على الحوادث الأخيرة في فلسطين، مشيداً بذكر اليهود وشجاعتهم في الطعن والضرب، زارياً على العرب أبناء هاجر وإسماعيل خوفهم ووحشيتهم وهزيمتهم، زاعماً تارة أنهم عزل مظلومون، وأن العرب على تسليح الإنكليز لهم، كانوا لصوصاً وقطاع طرق وأهل خيانة وغدر، يعتدون على الأطفال والشيوخ والنساء، وقد نظمت هذه القصيدة رداً على أنشودة النصر، غير معترض كثيراً إلى الحوادث، بقدر اعتراضي إلى تاريخ اليهود وتوراتهم وما عرفوا به من قبل، وما هم عليه اليوم من الادعاء الباطل، والغدر ونكران الجميل، مما يناقض كل ما ادعاه الشاعر رئوبين، وما وصف به قومه من المزايا والأخلاق».
معركة شعرية وهجاء لاذع
تعد هذه القصيدة من أشد فنون الهجاء في الشعر، وربما تستطيع أن تقارع قصائد الشعراء العرب القدامى في هذا الصنف الشعري. يشعر قارئ القصيدة منذ أول أبياتها، بأنه دخل إلى ساحة معركة، تحتدم فيها الكلمات وتتطاير الحروف كالسهام والخناجر، ويشعر القارئ أيضاً بحمية الشاعر التي تعبر عن حمية الشعب الفلسطيني بأكمله وحمية العرب، من خلال كلماته التي لا تزال محتفظة بحرارتها ودمائها الساخنة غيرة على الوطن والحق الأبدي. تفيض القصيدة بغضب عارم وانفعال شديد، كانا وراء صياغة تلك الأبيات التي جاءت كرد فعل على ما بدأ به الشاعر الصهيوني رئوبين من شر، وما ملأ به قصيدته من شتائم ونعوت قبيحة وصف بها الفلسطينيين والعرب بشكل عام، وما نفثه من عنصرية بغيضة، وشعور بالتفوق الديني والعرقي واحتقار شديد للعرب وكراهية عميقة لهم، وكذلك ما أضفاه من طابع ديني على قصيدته، كما لو أن المعركة معركة دينية في الأساس، وليست معركة الدفاع عن الأرض والوطن في مواجهة المحتل، الذي يحاول الاستيلاء على أوطان الآخرين ظلماً وعدواناً بغير حق، وقد تناول رئوبين ذلك الجانب الديني بتطرف شديد.
من السهل اليوم أن توصف قصيدة إبراهيم طوقان بأنها قصيدة معادية للسامية، لكن الشاعر الصهيوني رئوبين كان هو البادئ، وهو من رجع بالمعركة إلى عهود الأنبياء، واستدعى الأديان في معركة لا تخصها، وحاول أن يضفي على جرائم العصابات الصهيونية طابعاً دينياً مقدساً، ووقف في تلك الساحة رافعاً صوته بالأكاذيب والادعاءات والأوهام، وبأقسى عبارات الشر وكلمات الكراهية، باستعلاء كبير واحتقار شديد للعرب والفلسطينيين. كان لا بد إذن من التصدي لهذا الشاعر الذي أعلن حرباً أخرى من خلال قصيدته، إلى جانب حروب العصابات الصهيونية، التي كان يتصدى لها الفلسطينيون على الأرض، وهل هناك من هو أجدر من الشاعر إبراهيم طوقان لكي يتصدى لهذا الشاعر الصهيوني، وينازله بالكلمة ويطرحه أرضاً وينتصر عليه في معركة الشعر والدفاع عن الوطن.
تجعلنا هذه القصيدة نكتشف جانباً جديداً عند إبراهيم طوقان وقدراته الشعرية العديدة والمتنوعة، وهو صوت فلسطين الخالد، وأحد أجمل وأعذب شعرائها، صاحب نشيد «موطني» الذي قد يكون أجمل وأصدق ما كتب في حب الوطن، كتب طوقان العديد من القصائد الوطنية المتصلة بالفترة الزمنية التي عاش فيها، وما واكبها من أحداث جسام كالثورة الفلسطينية الكبرى في الثلاثينيات، وكتب العديد من القصائد الأخرى في مواضيع عامة ومختلفة، وكتب قصائد لطيفة تظهر روحه المرحة وخفة ظله. لكننا في هذه القصيدة التي رد فيها على رئوبين، نكتشف روح المحارب المقاتل بالكلمة عند إبراهيم طوقان.
ابتدأ طوقان قصيدته بالدفاع عن السيدة هاجر، التي سبها رئوبين، فقال: «هاجر أمنا ولود رؤوم لا حسود ولا عجوز عقيم… هاجر أمنا ومنها أبو العرب ومنها ذاك النبي الكريم… نسب لم يضع ولا مزقته بابل أيها اللقيط اللئيم… ودم في عروقنا لم يرقه سوط فرعون والعذاب الأليم… يعلم الدهر أي أهرام مصر ذلكم في صخره مرقوم».
في القصيدة يخاطب الشاعر إبراهيم طوقان شاعر الصهيونية باسمه أكثر من مرة، فيقول مثلاً: «أي رئوبين غط وجهك حتى لا يُرى الأنف أنه مهشوم»، ويقول: «أي رئوبين أين ألواح موسى والوصايا؟ فكلهن قويم… هن عشر نبذتموها جميعاً ورتعتم في الغي وهو وخيم»، ويقول أيضاً: «أي رئوبين هل قرأت شكسبير؟ بلى، أنت شاعر مشؤوم… وشكسبير خالد القول فيكم أمر «شيلوخ» في الورى معلوم… غير أن الذين منهم شكسبير تناسوا ما قال ذاك العظيم».
هنا نرى أن طوقان، على الرغم من استدعائه للجانب الديني أيضاً، الذي انطلق منه زوراً الشاعر الصهيوني، وكان على طوقان أن يرد على ما أثاره رئوبين، وأن يفند أكاذيبه وأضاليله، إلا أن طوقان لم يمس الدين اليهودي أو التوراة، بل على العكس دعا الشاعر الصهيوني إلى التمسك بتعاليم التوراة والنبي موسى عليه السلام. وفي هجاء إبراهيم طوقان اللاذع مرآة كبرى يضعها أمام الصهاينة ليروا أنفسهم، وقد كتب كل كلمة من كلمات هذا الهجاء عن علم وتدقيق وعدم افتراء، فيقول مثلاً: «وكفرتم بنعمة الله حتى ضاق ذرعاً بالكفر موسى الكليم… يشهد العجل أن ألواح موسى يوم زغتم أصابها التحطيم»، ويظل طوقان ماضياً في هجائه حتى يقول في ختام قصيدته: «لا عليك سلام… وإذا شئت لا عليك شالوم».
مروة صلاح متولي



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *