تسفي برئيل
لم يدخل وقف إطلاق النار بعد حيز التنفيذ رسمياً. فخطة إعادة المخطوفين، والجدول الزمني الدقيق لتطبيقها، والترتيبات التقنية المطلوبة لتنفيذ المرحلة الأولى – كل ذلك يحتاج إلى مفاوضات إضافية، التي يصعب تقدير كيفية إنهاء مسارها المليء بالألغام؛ المرحلة الأساسية في هذا المسار، نقل السيطرة على غزة إلى جهة إدارية خارجية التي ربما ستعتمد على قوة متعددة الجنسيات، موجودة الآن على طاولة الرسم كمسودة فقط، وستحتاج إلى مزيد من التفاهمات المعقدة قبل تحولها إلى خطة عمل قابلة للتنفيذ.
خلافاً للمفاوضات السابقة أثناء الحرب، التي لم تتناول سوى صفقة تحرير المخطوفين، تسعى خطة ترامب اليوم إلى عملية تشمل الشرق الأوسط كله، التي تعد فيها صفقة التبادل دفعة أولى، وحجر الزاوية الذي يتطلع إليه ترامب لإقامة مجمّعه متعدد الطوابق في المنطقة، والذي تلمع جائزة نوبل للسلام في نهايته. حتى قبل أن يتضح ما إذا كانت الخطة المدهشة ستترجم إلى احتفال موسيقي متناغم، قام ترامب بعدة حركات تكتونية شديدة القوة. فقد تبنى مواقف الدول العربية الرائدة، على رأسها السعودية وقطر ومصر، ومنحها موقعاً مساوماً غطى على مكانة إسرائيل. إن تفهم الاحتياجات الأمنية لإسرائيل فقد أولويته لصالح الدول العربية، وبدأ يفسر تبريرات إسرائيل لمواصلة الحرب كحاجة سياسية غير ملزمة، ولا تثير اهتمام الإدارة الأمريكية. كانت الذروة تعليماته غير المسبوقة لإسرائيل بوقف القصف في غزة على الفور، بعد بضع ساعات هدد فيها حماس مرة أخرى بفتح باب جهنم.
بيان ترامب لم يفاجئ إسرائيل وحدها، لكنه فاجأ أيضاً زعماء الدول العربية، ولا سيما حماس. على الأقل، حسب الردود العلنية، لم يتوقعوا قراراً حازماً وسريعاً جداً. في الجانب العملي، فبيانه أنقذ المفاوضات من عقبة معقدة واجهته، مطالبة حماس بضمانات أمريكية. ترامب، بدلاً من صياغة كتاب ضمانات أو نثر تصريحات فارغة عن إنهاء الحرب في المستقبل، أوقفها بنفسه بكل بساطة، ولذلك أصبح لا لزوم للضمانات. حتى الآن، من غير الواضح إذا كانت تعليمات ترامب لوقف إطلاق النار تم تنسيقها مسبقاً مع الزعماء العرب ومع اردوغان، الذي ازداد دوره في المفاوضات في مراحلها الأخيرة، وحتى إنه نسب لنفسه الفضل بهذا القرار. وهكذا، فقد تم تمهيد الطريق لتبني حماس للخطة. ولكن نتيجتها السياسية أصبحت واضحة، وتأثيرها يتجاوز حدود قطاع غزة بكثير.
بيان ترامب لم يفاجئ إسرائيل وحدها، لكنه فاجأ أيضاً زعماء الدول العربية، ولا سيما حماس. على الأقل، حسب الردود العلنية، لم يتوقعوا قراراً حازماً وسريعاً جداً
حتى الآن، تميزت مصفوفة الضغوط السياسية التي استهدفت تنفيذ صفقة المخطوفين بعدم التوازن الثابت والمفهوم. دول الوساطة، على رأسها مصر وقطر، كان عليها استخدام ضغط كبير على حماس، في حين أن إسرائيل تحظى بدعم ثابت ومستقر من الإدارة الأمريكية، التي تبنت رواية إسرائيل، والتي تفيد بأن الضغط العسكري وحده هو الذي سيؤدي إلى تحرير المخطوفين. ولكن الخطوات التي بادرت إليها الدول العربية في الساحة الدولية وأدت إلى اعتراف جارف بالدولة الفلسطينية وبناء “علاقة الأموال الضخمة” بينها وبين ترامب، التي شملت تعهداً باستثمار تريليونات الدولارات، والصدمة العالمية الكبيرة التي أثارتها مشاهد القتل والدمار في غزة – كل ذلك أدى إلى تآكل عميق في أسس النموذج الاستراتيجي الأمريكي القديم – الذي منح إسرائيل أفضلية سياسية ومفتاحاً حصرياً للبيت الأبيض.
وفي الوضع الذي اعتبرت فيه دولتان أو ثلاث دول عربية دول وساطة في صفقة محلية مهمة جداً ولكنها محدودة، حيث لم يكن من المفترض أن تؤثر على التوازن السياسي للقوى في المنطقة، برزت “جماعة” عربية على نحو نادر، قادرة على منافسة إسرائيل في استخدام نفوذها في البيت الأبيض والحصول على مكانة صانع السياسة الإقليمية.
ليس هذا استعراض القوة الأول لهذا التجمع، الآخذ في التعاظم منذ دخول ترامب البيت الأبيض؛ فهو الذي أعطى شرعية سريعة للرئيس السوري أحمد الشرع، وهو الذي أقنع ترامب برفع العقوبات عن سوريا. وكان أيضاً من العوامل التي أثرت على الرئيس الأمريكي في وقف الحرب بين إسرائيل وإيران، التي أصبحت ضيفاً دائماً في اجتماعات الجامعة العربية. كما أن الضغط العربي أزاح “ريفييرا غزة” عن الطاولة، بل ونتج عنه تصريح مهم لترامب، الذي بحسبه لن يسمح لإسرائيل بضم الضفة الغربية. وهكذا، فقد رسم حدودها كما يحاول فعل ذلك في غزة.
الحديث لا يدور عن كتلة صلبة لدول تتحدث بصوت واحد؛ فالخلافات بينها عميقة، والمصالح متناقضة وحتى العداء والاشمئزاز المتبادل لا ينقصها. ولكن إسرائيل، التي تستند إلى الافتراض بأن فلسطين لم تعد المغناطيس الذي يربط الدول العربية بعد اتفاقات ابراهيم والتي كانت لا ترى التهديد الذي وضعته غزة أمام كل المنطقة، ها هي تتفاجأ مرة أخرى. السؤال الآن: كيف وهل تستطيع هذه الدول أن تستخدم نفوذها لاستكمال عملية ترامب الكبيرة. من المتوقع هنا أن تواجه هذه الدول مرة أخرى فجوة عميقة تفصل بين الخطط على الورق، والتطورات على الأرض، التي ستوضح بشكل فعلي نوايا حماس ونوايا إسرائيل.
للوهلة الأولى، خطة ترامب تطرح مساراً شاملاً، يربط تحرير المخطوفين والسجناء الفلسطينيين بخطة إدارة غزة وتحييد حماس ورسم مسار ضبابي لإقامة الدولة الفلسطينية. عملياً، يدور الحديث عن خطتين منفصلتين. تحرير المخطوفين والمرحلة الأولى كلها غير مرتبطة بإنشاء إدارة عربية أو فلسطينية في غزة وتطبيق خطة بلير، وإقامة سلطة مؤقتة لإدارة القطاع. هذان أساسان بينهما فجوة يصعب جسرها. تتحدث الخطة عن “سلطة سلام” دولية سيترأسها ترامب بشكل رمزي، ويدير عملياتها توني بلير. وسيعمل تحتها مجلس إدارة مؤقت يتكون من “خبراء” برعاية غير محددة للسلطة الفلسطينية. لحماس موقف مختلف؛ فهي توافق في الواقع على المبدأ القائل بأنها لن تكون جزءاً من الإدارة المدنية المؤقتة التي ستقام في غزة. وهذه الموافقة أًعطيت في السابق بعد نشر خطة مصر في آذار الماضي. ولكنها قالت عن كل ما يتعلق بدورها في إدارة غزة في المستقبل: “(هذا الموضوع) مشروط بموقف وطني شامل، وستتم مناقشته في إطار وطني فلسطيني، ستكون حماس جزءاً منه”؛ أي أن حماس – التي تجاهلت في ردها موضوع نزع سلاحها – لا تتطرق إلى البند الذي يضمن انتقالاً آمناً لرجالها الذين سيسلمون سلاحهم، ولا توضح موقفها من نشر قوة متعددة الجنسيات في القطاع. وترى أمام أنظارها الآن حاجة لضمان الموقف السياسي والإداري الذي تطمح إليه في غزة، ولا تنوي التنازل عنه.
ربما تحاول حماس استغلال قرار ترامب وقف إطلاق النار و”وحدة الصف” العربي، واستغلال الشعور بالإنجاز من أجل المطالبة بتعديلات تضمن مكانتها. ستكتشف إسرائيل في حينه أن ترامب الكبير والثابت مصنوع من مادة مرنة تسمح له بإظهار مرونة مدهشة.
هآرتس 5/10/2025