أمثال روملوس وريموس باتوا كثيرين في روما!


بندتا، لا تطيق ساكني العمارة التي تعمل حارسة لها.. إنهم مثيرون للمشاكل كما تقول. المصعد يستحوذ على جلّ اهتمامها، بل على اهتمامها كله غالبا، وهي تتصدّى للزائرين من خارج العمارة، داعية إياهم إلى الصعود مشيا على السلم، هذا إذا لم تمنعهم من الدخول أصلا. لإغاظتها بال أحدهم في المصعد، وحدثت جريمة تًركت جثة القتيلة مدمّاة فيه. تكرههم الحارسة العجوز، أكثرهم مهاجرون قدموا إلى إيطاليا من بلدان العالم الفقير. وهم قليلو الإلمام باللغة الإيطالية، بل هي تمقت إلمام أحدهم، أميدي (وهو أحمد في الأصل)، لأنه يجيدها أكثر من أهل روما الأصليين. كما أنها تزدري البلدان التي هاجروا منها، رغم أنها لا تعرفها، فتعيد نسب كل منهم إلى بلد ليست بلده كأن تُنسب الإيراني إلى ألبانيا والفيتنامي إلى كوبا، بل إن مقتها يتعدّى أحيانا المهاجربن ليصل إلى إيطاليي المناطق الأخرى من ذاك البلد. وهذا ملفّ يضاف إلى ملفات التنازع بين المواطنين الأصليين والمهاجرين في روما.
الرواية لا تبتعد عن موضوعها هذا ساعية إلى إثارة كل ما قد يؤدي إلى استنهاض الخلاف فيه، وهذا يطال أكثر مناطق الجنوب الإيطالي، على قدر ما يطال المهاجرين، الملاحقين أصلا ومن دون حاجة إلى أسباب تدعو إلى ذلك.
الاختلاف بين جنوب إيطاليا وشمالها لا يقل حدة وضراوة عن ذاك الذي نشهد فصوله في بلدان كثيرة بينها بلداننا بالطبع، فحسب أهل الجنوب الذين هاجروا إلى الشمال، عقب الحرب العالمية الثانية، مساهمين بنهضة بلدهم، هم غير مرحب بهم من أهل الشمال. كأن إيطاليا لم تتوحد بعد. أحد أبطال الرواية يذكر، معتمدا على مقال قرأه في صحيفة، كيف أنه جرى توحيد ذاك البلد قبل أن يتوحد من سيصيرون مواطنيه. من ذلك مثلا افتقادهم للجوامع المشتركة بينهم، ما يجعل من كأس العالم لكرة القدم مناسبَة ليشعروا بأنهم إيطاليون جميعهم «يضعون الأعلام الإيطالية على النوافذ، وفي الشرفات وأمام مداخل المجلات التجارية، يا للعجب! كرة القدم تصنع الهوية! لا فائدة من الدين الواحد واللغة الواحدة والتاريخ المشترك».
وفي كراهية مثل هذه يصير الالتزام بما تنتظره حارسة العمارة، شيئا مطعونا في دافعه، فإذ يمتنع أميدي (أحمد) الذي يحبّه الجميع عن استعمال المصعد والأوتوبيس والمترو وتعلّقه بالمشي، جعل أحدهم يشكّ في انتمائه إلى تيار سياسي يفوق النازية والفاشية والستالينية، ألا وهو تيار الخضر. كما إنه لا يتحرج من تسمية دعاة حماية البيئة بالبرابرة الجدد، لأنهم يسعون إلى إيقاف عجلة التقدم والتكنولوجيا وإعادة البشر إلى العصر الحجري.
وفي ما يتعلّق بحياة المهاجرين قليلةٌ هي اللقاءات والحوارات التي تجري بينهم، لكن الرواية أتاحت لكل منهم الكلام بمداخلة يقولها، متبوعة بعواء يعبّر به عن شوقه أو ضيقه أو يأسه أو رأيه بما يجري حوله. ولم تصوّر الرواية وقائع حياة مشتركة بين اثنين من شخصياتها، رغم سعيه لمساعدتهم وحمايتهم، لكنها مكنت كلا منهم من أن يقول قوله كاملا في الآخر، وإن بنيرة المراقّب المتحرّى عنه، أو بنبرة الشاكي مما يلقاه في حياته بعيدا عن مسقط رأسه. فها هو أميدي يشكو مما صارت عليه حاله بعد هجرته وفقدانه الإقامة بين أهله، متذكّرا، في معرض كلامه عن لعنة الذاكرة، كيف كان يعيش صوم رمضان بتفاصيل سحوره وإفطاراته وأطايب الطعام بمختلف أشكاله وألوانه.
أميدي، لكونه يعرف إيطاليا بما يتعدى معرفة أهلها بها، يلقى ثناء على ذلك من المهاجرين وتشككا واتّهاما بالجاسوسية من سواهم. كما أنه متّهم من البعض بجريمة المصعد ومبرّأ من البعض الآخر، من دون أدلة في حوزة هؤلاء أو في حوزة أولئك. ذاك حتمي طالما أن للعملة وجهين ينبغي أخذ كل منهما في الاعتبار. عالم الرواية، رغم تطرّقه إلى كل ما يتصل بأكثر القضايا المعاصرة، سواء تعلّقت بالمهاجرين، أو تجاوزتهم، عالم خال من الاحتقان والنوازع العنيفة، هذا ما يميّزالرواية الخارجة من البلاغة الجاهزة في تعاملها مع إحدى قضايا العالم الساخنة. ربما يرجع ذلك إلى نبرة السخرية الخفيفة الوطأة أثناء كل شيء، من نوع المقت الذي ترمي به بندتا، حارسة العمارة، أولئك المهاجرين، وقد شملت تلك السخرية، القضية الأكثر سخونة وحدثية في الرواية مثل جريمة المصعد، أو يعود ذلك ربما إلى إيثار المهاجرين السلامةَ في تصرّفهم وفي سرائرهم على السواء. هي رواية رائدة في وجهتها ولغتها وبنائها، ومعاصرتها أيضا.
*رواية «كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضّك» للجزائري عمارة لخوص، صدرت طبعتها الرابعة عن دار المتوسط، وكانت طبعتها الأولى قد صدرت عن الدار نفسها في 2003.

كاتب لبناني



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *